م. محمد خير أبو خشبة
أجرى علماء بريطانيون دراسة تعد من الأطول مدةً في تاريخ العلم، استغرقت 20 سنة ، تابعوا حوالي 5000 رجلأ بريطانياً ، معدل أعمارهم 56 سنة، للبحث في تأثير البيرة على جسم الإنسان وعقله ونفسيته.
بُنيت هذه الدراسة على إحصاءات جمِعت في السنوات العشر الأولى لمعدل استهلاك البيرة اليومي، ومن ثم إجراء تجارب على شاربي البيرة ودراسة نتائجها في السنوات العشر التالية.
بيّنت هذه الأبحاث أن الإفراط بشرب البيرة يضاهي مفاعيل الكحول الأخرى، ويعرّض الذي يشرب قدحين منها فقط يومياً لمشاكل عقلية خطيرة على مر الوقت، منها:
1. تدهور الذاكرة: عدم القدرة على استرجاع أفكار وحوادث قديمة.
2. عدم القدرة على استدعاء المعلومات: بطء في التفكير وتدهور للمعرفة في كافة المجالات.
3. تراجع الوظائف التنفيذية: كمهارات الانتباه، وحل المشاكل، والمهارات الحركية كالقيادة…
4. صعوبة في استخدام الألفاظ وتذكر المفردات: حتى القصيرة منها والسهلة الاستعمال.
5. صعوبة في السيطرة على العواطف: كالقلق والارتباك والاكتئاب…
هذا عدا عن الآثار السلبية الجسدية المعروفة والتي تم اكتشافها سابقاً: الأرق- الخمول- الصعوبة في التنفس- انخفاض حرارة الجسم- ارتفاع ضغط الدم- انخفاض نسبة السكر في الدم- التقيؤ- مشاكل في القلب- فشل الكبد- التهاب البنكرياس- سمنة البطن (Beer Belly)- التسمم والجفاف في الجسم- مستويات الدهون المرتفعة في الدم (hypertriglyceridemia)- الحرقة- مشاكل في الحمل وعند الجنين (كالإجهاض والتشوهات الخلقية والسلوكية:fetal alcohol syndrome)- اضطرابات النمو والسلوك بعد الولادة وخلال الرضاعة- خفض إنتاج الحليب عند الأم.
البيرة: حكمها كحكم الخمر؟
حذّر الإسلام قبل 1400 سنة من خطورة الخمر على كافة الأصعدة، الصحية منها والاجتماعية والاقتصادية والدينية…، ولم يستثنِ الخمر الناجم عن تخمير الشعير المسمى البيرة، والتي كانت قديماً تسمى “الغبيراء”، وتسمى “المِزر”، القليل منها والكثير.
وشدّد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في عدة مواقف فقال: “ما أسكر كثيره فقليله حرام” .
وقال أيضاً: ” كل مسكر حرام. وما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام” .
وقال أيضاً: “حرمت الخمر قليلها وكثيرها، وَالسُّكْرُ من كل شراب حرام” .
ووصنف النبي صلى الله عليه وسلم المسكر من الشراب على أنه خمر، فقال: “كلّ مُسْكِرٍ خَمرٌ، وكلّ مُسكِرِ حَرامٌ، ومن ماتَ وهو يشربُ الخمرَ يُدْمِنُها لم يَشربْها في الآخرة” .
الغبيراء- البيرة: أسماء متقاربة لخمر الشعير
ومن اعجازه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن البيرة هي الأكثر استهلاكاً، فعن سَعْدِ بن عُبادة رضي الله عنه، أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَيَّ الْخَمْر وَالْكُوبَةَ وَالْقِنِّينَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُبَيْرَاءَ فَإِنَّهَا ثُلُثُ خَمْرِ الْعَالَمِ” . قَالَ: قُلْتُ لِيَحْيَى: ما الْكُوبَةُ؟ قال: “الطَّبْلُ” .
وعن أم حبيبة ابنة أبي سفيان، أن أناساً من أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلمهم الصلاة والسنن والفرائض، ثم قالوا: يا رسول الله، إن لنا شراباً نصنعه من القمح والشعير؟ قال: “الغبيراء؟” ، قالوا: نعم قال: «لا تطعموه» ، ثم لما أرادوا أن ينطلقوا سألوه عنهما؟ فقال: “الغبيراء؟” ، قالوا: نعم قال: “لا تطعموه” قالوا: فإنهم لا يدعونها؟ قال: “من لم يتركها فاضربوا عنقه” .
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله حرم على أمتي الغبيراء” .
أصناف البيرة
صنف النبي صلى الله عليه وسلم البيرة على أنها نوع من أنواع الخمر، فحدد أنواعه ومصادره في حديثه: “إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من البُرِّخمراً، وإن من الشعير خمراً” .
وذكر سيدنا عمر ابن الخطاب ذلك بقوله “الأشربة تصنع من خمسة: من الزبيب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، وما خمّرته حتى يكون خمراً فهو خمر” .
ورضي الله عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألوه في أمور الأمصار التي بعثهم إليها، فعن سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ وَجَّهَ أَبَا مُوسَى الأشعري وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ يُصْنَعُ بِهَا شَرَابٌ مِنَ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ، وَشَرَابٌ مِنْ شَعِيرٍ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ” .
بيرة شرعية؟؟؟
وجاء اليوم الذي أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم عندما يشربالمسلمون البيرة على جهل، فقال صلى الله عليه وسلم :”لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر، ويسمونها بغير اسمها” .
والحقيقة المرّة هي أن البيرةالمنخفضة الكحول (Low-Alcohol Beer) هي ذاتها البيرة الخالية من الكحول (Non-Alcoholic Beer)، فإن كلّ أنواع البيرة – سواء كانت “خالية من الكحول” أو “شرعية” – تحتوي على كمية ضئيلة من الكحول، تصل إلى 0.02% في حدها الأدنى.
ولا بد لماء الشعير من التخمر بعد ثلاثة أيام، فالبيرة الخالية من الكحول في الأسواق تتخمر. وأما الحل البديل، فيكمن بأن يقتدي المسلم بالنبي صلى الله عليه وسلم ويصنع أشربة العنب والشعير وغيرها في بيته، ويشربها لمدة ثلاث أيام فقط. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنْقَعُ له الزبيب فيشربه به اليومَ، والغَد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيُسْقَى أو يُهْراق (أي يصبّ ويرمى)” .
وقد خُدِع كثير من المسلمين اليوم بالمضمون وبالإسم، فإذا كتب المصنعون “0.0% كحول” على الزجاجة، يكونون قد تناسوا على الأقل التخمر بعد اليوم الثالث، كما الرقم المحذوف، وهو الرقم الثالث المحاذي للصفر الأيمن.
دواء أم داء؟؟؟
أما الذين يظنون أنه يمكنهم الاستعانة بالبيرة للتداوي من الأمراض، لا يعلمون أن آخر الاكتشافات تدل على أن البيرة قد تزيد نسبة المرض وتزيد الوضع سوءاً عوضاً عن تحسينه.
ولولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما علم الصحابة وعلمنا بذلك، فعندما أتى سُوَيْدَ بْنَ طَارِقٍ يسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لنا أعناباً نعتصرها، فذكر الخمر، فنهاه، فقال: إنها دواء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بل هي داء” .
ونصح جلسائه صلى الله عليه وسلم فقال صلَّى الله عليه وسلم -: “إنَّ الله عزّ وجلّ أنْزَلَ الدَّاءَ والدَّواء، وجَعَلَ لِكُل داءٍ دَوَاءً، فَتَداووا، ولا تَدَاووا بحرَام” .
حرام ولو لم يسكر؟
وبغض النظر عما إذا كان المشروب خمراً، فقد حرم الشرع ما يؤذي المرء عقلياً وجسدياً، فعن أم سلمة رضي اللَّه عنها أنها قالت: “نهى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر (أي كل شراب يورث الفتور في الجسم والخمول في الأعضاء) ” .
التحليل
لم يحرم الشرع الخمر (بكافة أنواعها) سدىً، ولكنه أمر المسلم باجتنابها نظراً لضررها من جهة، ولقيمة المسلم وكرامته من جهة أخرى. فعقل الإنسان هو هدية الله عز وجل له. فمن عطّله، عطل خلقاً من خلق الله ونعمه، فوجب عقابه.
أما من الناحية الدينية والروحية، فالمسكر والمفتر يصيبان الإنسان بالغفلة عن الله، وبالكسل في الطاعات والعبادات، ناهيك عن عدم وعي العقل أثناءها.
أما من الناحية الإجتماعية، فمفاعيل الخمر وخيمة، من حوادث سير وإصابات وهزء وسخرية في المجتمع، إلى تفكك الأسرة وضياع القيم والأخلاق… ولا تعليق في النواحي الإقتصادية، فالجميع يعلم تأثير الإدمان على الجيب.
واختصر الله عز وجل كل ذلك بآيتين، ذكر في الأولى المشكلة/العقدة، وذكر في الثانية سبب التحريم، فقال في كتابه العزيز:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۞ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ” .
مرة جديدة، جاء العلم مطابقاً لما ورد في الكتاب الكريم والحديث الشريف، فالقرآن لم ينزل فيه ما كان في غير مصلحة المسلم خاصة والإنسان عامة، وما جاءنا النبي إلا رحمةً لنا وللعالمين أجمع.
الحمد لله الذي جعلنا في عصرٍ عرف الخبايا وراء الأحكام الشرعية بعد أكثر من 1400 عام، فقال الله تعالى “وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ” .
وإن كان في هذا الأمر شبهة وليس حراماً، فهو مدعاة للخطر، فالحديث الشهير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ” .
رزقنا الله اتباع أوامره وسنة نبيّه واجتناب نواهيه والشبهات من الأمور. والحمد لله رب العالمين.