سيد أحمد *
مقدمة
سجّل البنك المركزي الأوروبي في مطلع شهر حزيران/ يونيو 2014 سابقةً عبر إصداره قراراً بخفض سعر الإيداع إلى ما دون الصفر، في إطار حزمة قرارات تشجيعيّة للنشاط الاقتصادي. يقضي القرار بخفض سعر الإيداع إلى ناقص 0.10 في المئة، وهي خطوة لم يقم البنك بمثلها قبلاً، وتعني أنه بدلاً من حصول المودع على فوائد إيداع أمواله، يحصل البنك عائداً على الإيداع لديه.
استلهام فكرة الزكاة
اعتبر بعض المحللين أن الخطوة تستلهم فكرة الزكاة المعروفة في الإسلام بـ«منع الكنز»، وذلك من خلال فرض نسبة معينة على رأس المال الذي يمر عليه عام (يحول عليه الحول).
توجد فعلياً فوارق واضحة:
أولاً، الزكاة في الإسلام أمر مفروض على الفرد في إطار واجباته الدينية، في حين أنّ إجراء البنك المركزي الأوروبي يستهدف المصارف التي تقوم بالإيداعات.
ثانياً، للزكاة وجوه معروفة ومحددة للإنفاق بينما خطوة البنك المركزي الأوروبي تستهدف تشجيع توجيه الأموال إلى أنشطة اقتصادية بدلاً من تثميرها بإيداعها في المصرف.
وقد يُرى أن فلسفة الخطوة تتواءم مع المقاصد الكليّة للإسلام، حيث النظرة إلى المال كوسيلة لإعمار الأرض، وكره أن يكنز لذاته.
في واقع الأمر، وبغض النظر عن صلة هذه الخطوة بالزكاة، فإن الجانب المالي في الإسلام بات يلفت أنظار المجتمعات الغربية ومؤسساتها، وذلك في إطار الرغبة بتجديد نفسها واستيعاب ما تراه مفيداً لها بصورة أو بأخرى. كما يعود ذلك إلى وجود كتل اجتماعية غير راغبة بتقاضي الفائدة. ولهذا لم يعد من الغريب أن يكون لدى العديد من المؤسسات المصرفية الغربية الرئيسة أمثال «سيتي بانك»، «شيس مانهاتن» و«أتش أس بي سي» نوافذ للتعامل المصرفي وفق أحكام الشريعة الإسلامية في منتجاتها المالية المعروفة، من مرابحة ومشاركة ومضاربة وغيرها. ووصل الأمر أن أصبحت لندن مقراً لعدد من البنوك الإسلامية، والى سماح العديد من الدول حول العالم بممارسة مختلف أنواع الصيرفة الإسلامية.
أرقام هائلة تثير شهية لندن
أصبحت الصكوك الصادرة والمُدارة وفق أحكام الشريعة، مثل عدم التعامل في مشروعات/ سلع/ خدمات محرَّمة، ومشاركة العميل في الربح كما الخسارة وفق حصّته، ذات جاذبية بسبب النمو الكبير في حجم سوقها الذي يقدّر أنه تجاوز ترليون ونصف الترليون دولار. ويقدّر أن سوق الصكوك هذا يسجل نمواً سنوياً بنحو 15 في المئة، وأن نسبة كبيرة منها تباع في واقع الأمر لغير المسلمين، كما يقدّر تجاوز حجم اصدارات الصكوك خلال الربع الأول من العام 2014 عتبة الـ 30 مليار دولار. ولهذا تسعى لندن الى أن تكون أول عاصمة غربية تستقطب نشاطات الصيرفة الإسلامية. وفي أواخر العام قبل الماضي، خاطب رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون مشاركي أحد مؤتمرات المال الإسلامية، مُعلناً عن خطط تَطرح بموجبها وزارة الخزانة البريطانية صكوكاً بقيمة 200 مليون جنيه استرليني، وهو مبلغ متواضع مقارنة بحجم الإصدارات الأخرى في هذا المجال، لكن لكون الإصدار يتم في لندن يعطيه قيمة إضافية، ويتوقع أن تكتمل خلال أسابيع قليلة عملية الإصدار هذه.
وقبل ذلك بأربعة أشهر، قام برلمان هونغ كونغ، حيث تتمتع الجزيرة بشيء من الاستقلالية التنفيذية والتشريعية على الرغم من تبعيتها للصين، باستكمال القوانين والتشريعات التي تسمح لها بإصدار صكوك على النسق الإسلامي، ويخطط أن تبلغ قيمة الإصدار الأول 500 مليون دولار.
تعود جذور ظاهرة الصيرفة الإسلامية الى ستينيات القرن الماضي، عندما بدأت في مصر مع بعض بنوك الادخار. من ثمّ انطلقت وانتشرت في العقد التالي، عندما تمكّن الإسلاميون السودانيون المتحالفون مع الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري من إقناعه بالسماح بإنشاء أول بنك يعمل على هَدْي الشريعة، وهو «بنك فيصل» الإسلامي في أواخر سبعينيات القرن الماضي. وجرى إعفاء البنك من الكثير من الإجراءات والشروط، الأمر الذي جعله يحقق أرباحاً تم تدويرها لدعم العمل السياسي للإسلاميين من خلال توفير قروض ميسرة جداً لأعضاء التنظيم، ما فتح لهم باباً للتمويل لم يكن متاحاً لغيرهم، وهذا ما أسهم في بروز طبقة من رجال الأعمال الإسلاميين. وتوسّعت التجربة لإقامة بنوك أخرى وشركات في مجال التجارة والتأمين وغيرها، وفرت سنداً قوياً للتنظيم السياسي للإسلاميين، الأمر الذي جعل التجربة جزءاً من صراعات العملية السياسية. ويردّ الإسلاميون على الدوام على منتقدي ممارساتهم المالية، سواء الاحتكار أو التمييز في توفير القروض، بالقول إن النقد موجّه الى الإسلام وليس إلى ممارسات بعينها بهدف إصلاحها.
والغريب أنه في الوقت الذي كانت فيه تجربة البنوك الإسلامية بقيادة بنك فيصل تنتشر في السودان ومصر وغيرها، كانت ممنوعة من العمل في السعودية. والسبب كما يقدَّم أن النظام البنكي في السعودية يعمل على هَدْي الشريعة ابتداءً، كما أنّ السماح ببنك يرفع الراية الإسلامية يعني أن بقية البنوك ليست إسلامية.
لكن مع دخول عقد التسعينيات، وبروز ما عُرف بـ«الصحوة الإسلامية»، وجدت البنوك الإسلامية طريقها، وذلك بعد السماح لمجموعة الراجحي العاملة في ميدان الصرافة بإنشاء بنك يعمل على أُسس إسلامية. ومن بعدها تدافعت بقية البنوك الى فتح نوافذ وتقديم منتجات مالية تحت اللافتة الإسلامية.
إسلاربوية
خلال عقود من الممارسة، برزت بعض الظواهر السلبية في عمل البنوك الإسلامية حتى وصل الأمر أحياناً الى وصفها بالبنوك «الإسلاربوية»، أي أنها تضع طلاءً اسلامياً على ممارسات ربوية من الناحية العملية، مع تغيير في المسميات. تنطلق أهم الانتقادات للبنوك الإسلامية من منصة سياسية، وذلك على أساس أن التجربة مجيّرة لمصلحة ناشطين سياسيين يستخدمونها في برامجهم السياسية. وفي تجربة السودان، ساهمت هذه النوعية من المصارف في تصعيد الإسلاميين من حزب صغير إلى احتلال المرتبة الثالثة انتخابيّاً، وتمتّعهم بقدرات مالية ضخمة مقارنة مع منافسيهم. وهذا ما مكنّهم من الإنفاق على الإعلام وعلى العضوية، وتهيئة المسرح لانقلابهم الذي قاده الرئيس الحالي عمر البشير، وكذلك من احتفاظهم بالسلطة لربع قرن من الزمن، وهو ما لم يُتح لأي قوة سياسية في السودان من قبل.
وبسبب هذا البُعد السياسي في نشاط البنوك الإسلامية، أصبح من الصعب انتقادها أو تقويم مسارها كما هو الحال مع صيغة المرابحة، حيث البنك لا يقوم بأي نوع من أنواع المخاطرة. وينتهي الأمر بالعميل لأن يدفع للبنك الإسلامي أضعاف ما يدفعه الى البنوك الربوية. وعلى الرغم من أن هذه البنوك تعمل تحت إشراف هيئات للرقابة الشرعية لضبط ممارساتها المالية وفق هَدْي الشريعة، الا ان أعضاء الهيئات تعيّنهم إدارات البنوك نفسها، الأمر الذي يقدح في مدى استقلاليتهم. كما أنهم في معظم الأحيان يكونون من شيوخ العلم التقليديين، ممن لا يمتلكون كبير اطلاع على الاقتصاد المعاصر وآلياته وكيفية عمله، ما يجعل نظرتهم قاصرة. وجاء النقد من داخل جماعات لا يمكن اتهامها بالعداء للتجربة من منطلق سياسي، مثل الشيخ صالح كامل رئيس مجموعة «دلة» السعودية، التي عملت في مجال البنوك الاسلامية لأكثر من ثلاثة عقود. وينتشر «بنك البركة» التابع لها في أكثر من دولة. وبرأي الشيخ صالح، فإن هذه البنوك اهتمت بالكمّ ولم تلتفت إلى الكيف وتحقيق مقاصد الشريعة، كما أنها تعاني من متاعب تخطيط السيولة، وعلاقاتها مع المودعين لم تكن قط علاقة شراكة، وربما يعود ذلك إلى بدئها بطريقة البنوك التقليدية نفسها وليس كشركات استثمار. ويقترح كامل تسميتها بالبنوك الإبراهيمية بدلاً من الإسلامية، وذلك على أساس أن الأديان السماوية الثلاثة (الإسلام، المسيحية واليهودية) تحرّم كلها الرِبا.
كما أن غياب أي جهة مركزية يمكن أن تضع سياسات وضوابط لازمة لأنشطة المصارف الإسلامية لعب دوراً في عدم تحقيقها للأهداف التي قامت من أجلها، على الرغم من تجمعها تحت راية اتحاد ينسّق أعمالها.
من ناحية أخرى، يمكن اعتبار تجربة البنوك الإسلامية ظهيراً للحركات الدافعة إلى إيلاء الدين الإسلامي مكانة في الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي في كل قطر، كما أن مخاطبتها للعاطفة الدينية لدى المودِعين ساعد في تنامي حجمها وسوقها، الأمر الذي دفع حتى بالمؤسسات والمجتمعات الغربية إلى الالتفات إليها، وكلّه من باب الاستفادة والولوج إلى قاعدة ضخمة من رؤوس الأموال غير المستغَلة وإعادة تدويرها.
وإن كانت البداية المتواضعة للتجربة قامت في السودان والأردن، إلا ان انطلاقتها الفعلية تمّت في ماليزيا المتعاطفة مع الطروحات الإسلامية. اضافة إلى أن عقدي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، شكّلا فترة لخصخصة العديد من مؤسسات الدولة الماليزية في مختلف المجالات، مما أتاح الفرصة لتنشيط التمويل الإسلامي. كما أن الطفرة المالية في الدول الخليجية (خاصة بعد العام 2005) وفّرت موارد مالية ضخمة، اتجهت للبحث عن أوعية جديدة وجدتها في صيغة الصكوك التي أصبحت بدورها مثار اهتمام الأسواق العالمية الساعية (في وجه أزماتها المتلاحقة وآخرها أزمة العام 2008) الى فتح الباب أمام أي ممارسة تساعد في المواجهة، وذلك في اطار التقليد الرأسمالي في الابتكار واستيعاب الجديد.
خاتمة
ولهذا يمكن النظر الى تجربة الصيرفة الإسلامية على أساس انها اجتهاد مالي ومصرفي بشريّ كان يمكن تقديمه وإخضاعه للنقد والمراجعة والتقويم، إلى جانب إبعاده عن التسييس. فربما تساهم التجربة في تقديم جزء من الحلّ للواقع الاقتصادي المعقد، بدلاً من نهج العنف ودوامته التي وسمت صراع الإسلاميين وخصومهم في الملعب السياسي.
____________________________________
* كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط. بريد القراء نقلاً عن جريدة السفير 2/9/2014