المهندسة سناء محمد الدحروش*
يعتبر هذا البحث بمثابة تفسير علمي لقول الله تعالى في الآية الكريمة من القرآن الكريم: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للنّاس} (الحديد 25) برؤية جديدة، إذ يتطرّق للحديد كجُزيء كيماوي يدخل في كيان كل المخلوقات الحيّة من إنسان وحيوان ونبات…
إن هذه الرؤية العلميّة والطبيّة لهذا المعدن هي وليدة العصر الحديث، بعد التقدّم الكبير في ميدان العلوم والتكنولوجيا، وكذلك تقدم التّجارب والتّحاليل والبحوث البيولوجيّة، حيث ثبت عمليًّا أنّ الحديد عنصر أساسي وهام في جسم الإنسان والحيوان، خاصّة في الدّم، وكذلك في الكثير من النّباتات كالقطاني والخضروات، بعد أن كان الحديد يُعتبر، ولقرون عديدة، مجرّد معدن لصنع الآليات والأدوات المختلفة، نظرًا لصلابته ومقاومته، ولهذا نجد أنّ جلّ المفسّرين الأجلاّء، منذ أوائل القرن الثّامن وحتّى القرن الثّامن عشر، قد اتّفقوا في نظرتهم للآية الكريمة، وهي أنّ البأس الشّديد يعني الحرب وأدواتها، من سيوف ودروع، وحتّى الدّبّابات والبارجات والطائرات الحربيّة؛ ولهذه الدّلالة مُنطلقان: المُنطلق الأوّل ثقافي إذا صحّ التّعبير، وهو أنّ العلم لم يكن قد توصّل بعد على أنّ الحديد المعروف كمعدن، والمُستعمل في كلّ الصّناعات تقريبًا، موجود بصفة أُخرى في جسم الإنسان والحيوان، وأيضًا في النّباتات. والمُنطلق الثّاني لُغَويّ، ففي المعاجم الهامّة كلسان العرب وغيره، نجد كلمة حرب أو قتال من بين مرادفات كلمة البأس، وهذا، إضافة إلى ما سبق من عدم تصوّر وجود الحديد في شكل آخر عدا شكله المعدنّي المعروف آن ذاك، وهو ما رجّح اعتماد معنى الحروب وأدواتها في مُعظم التّفاسير.
ولكن، لو توسّعنا في الدّلالة الّلغويّة لكلمة بأس، لوجدنا من بين مُرادفاتها: الضّرّ أو الضرر، كقولنا للمريض: لا بأس عليك أي لا ضرر عليك، وكذلك العيب، كقولنا إذا سُئلنا عن رأينا في شيء ما: لا بأس به، أي: لا عيب ظاهر فيه… ونجد كذلك الخطر والعذاب والخوف والقوّة والخسارة.
فإذا توقّفنا قليلاً أمام كلمة الضرر، وأضفنا إليها ما هو معروف الآن كحقيقة علميّة لا جدال فيها، وهي أنّ جزيء الحديد مُكوّن أَسَاسي لدم وعضلات الإنسان والحيوان، وكذلك وجوده – بوفرة – في بعض الخضروات والفواكه، كالقرنبيط الأخضر والعدس الذي مكننا للتوصل إلى العلاقة الواضحة، بين هذا الحديد العُضوي، وبين البأس أو الضّرر الذي قد يترتّب عنه، إذا زادت نسبتُه، أو مسّ استقلابه العادي أي خلل، خاصّة وأنّ رب العزّة قد قدّم البأس في ترتيب كلمات الآية عن المنافع، وزوّده بنعت الشّديد، بينما المنافع تأتي بعده، ولا نعت لها، وهذا هونفس سياق هذا البحث الذي سوف نرى فيه بعون الله، وهكذا فإن أضرار جزيء الحديد تفوق بكثير نفعه إذا زادت نسبته عن المطلوب، ممّا يُحدث خللاً في تفاعله مع المواد الأُخرى، فينتُج عن ذلك أمراض واضطرابات عديدة لا تُحصى، تهُمّ كلّ الأجهزة الحياتيّة في جسم الإنسان.
الحديد… مصدره واستقلابه:
الحديد هو مادة معدنيّة يستخلصها الجسم من المواد الغذائيّة المُحتوية عليها، ويستعملها في الكثير من التّفاعلات الحياتيّة، كنقل الأكسجين للخلايا للأنسجة، وحمل الإلكترونات عبر السلسلة التّنفّسيّة، وكذا DNA في تكوين الحمض النّووي، ويتميّز الحديد بوجوده ضمن حالتين مختلفتين من الأكسدة، مما يسهل استعماله في العديد من التّفاعُلات البيوكيماوية، ولكن هذه الميزة قد تشكّل خطرًا في بعض الظروف، إذ أنّ الحديد المُحمّل (+3) يُساهم وبحدّة في تكوين ما يُسمّى بالشّقوق الحُرّة الخطرة، لهذا كلّه، كانت كميّة الحديد في الخلايا، ونوعيّته ودرجة أكسدته وتفاعلاته، مُبرمجة ومُحدّدة بدقّة مُتناهيّة؛ وتُساهم في حسن سير هذه البرمجة ومراقبتها، مواد عديد ومُتخصّصة، في أغلبها بروتينات (مواد زلاليّة) وهُرمونات، وذلك حتّى يتمكّن الجسم من استعمال جزيء الحديد بطريقة مضبوطة وآمنة.
الحديد الغذائي:
نجد مادّة الحديد في العديد من المواد الغذائيّة، كالخضروات واللّحوم والقشريّات (ثمار البحر)، بينما لا يحتوي الحليب ومُشتقّاته على أيّة نسبة من الحديد؛ يُوفر الغذاء المُتوازن 20 مغ من الحديد يوميًا، حيث تُمتصّ ملليغرامين في منطقة الإثنى عشر (مُباشرة بعد المعدة)، ويتغيّر مخزون الحديد في جسم الإنسان طيلة حياته من 0,27 غ عند الولادة إلى 3 أو 4 غرامات عند البالغين، حيث يُمثّل 50 مغ في الكيلوغرام من وزن الرجل المُتوسّط، و 40مغ في الكيلوغرام عند النّساء، وسوف نرى أسباب هذه الفُروق فيما بعد (رجل من 70 كغ يتوفر على 4 غ من الحديد وامرأة من 60 كغ تتوفر على 2,5غ). أكثر من 60% من هذا الحديد يُوجد في الدّم وبالتحديد في الكريات الحمراء، مُجتمعًا مع اليحمور (الخضاب الدُموي أو الهيموغلوبين)، وفي حالة الإنسان العادي السّليم، يتوازن دخول الحديد إلى الجسم عبر التّغذيّة، مع خُروجه مع الفضلات أو من خلال الدّورة الشّهريّة للمرأة، أو مع الخلايا التّالفة والمُتجدّدة.
ويخضع امتصاص الحديد (على مُستوى الجهاز الهضمي وخاصّة في منطقة الإثنى عشر كما رأينا)، لمقاييس دقيقة تُحدّد مقدار ما تحتاجُه الخلايا ساعة الامتصاص، فتتغيّر نسبة امتصاصه حسب الحاجة من 2% إلى 20% حتّى لا يحصُل ارتفاع في مخزون الحديد في الخلايا ويظهر تراكم في ذرّاته ممّا يتطوّر بسُرعة لوضعيّة غير صحيّة وحرجة.
Divalent Cation Transporter(DCT) ويلعب ناقل زلالي دورًا مهمًا في هذا التّوازن، إذ أنّ نسبة ظهروه تزداد بسُرعة في حالة احتياج الخلايا لجزيء الحديد.
- في الدم:
كمية الحديد في الدّم مرتفعة جدًّا، تُقارب 300 إلى 500 مغ/لتر، 90 في المائة من هذه الكمية توجد في اليحمور بداخل الكريات الحمراء، والمصل (البلازما) أيضًا يحتوي على كمّية عالية من الحديد، حوالي 1 ملغ/لتر، وهنا تجدُر الإشارة إلى أنّ هذا الحديد، الموجود في البلازما أو في الدّم، لا يمكن بأي حال أن يبقى حرًّا أو منعزلاً في المصل أو في الدم، بل يجب أن يتّصل – سواء في تنقُّلاته Transferrine أو في حالة تخزينه – ببروتينات مُتخصّصة، تُدعى الأولى، وهي الأهم والمُستعملة في التّنقُّل: الترانسفرّين أو (العَبر – حَديديّة)، وهي مادّة زُلاليّة يُفرزها الكبد، مُكوّنة من 679 حامض أميني، وكلّ وحدة من هذه المادّة تستطيع الارتباط بذرّتين من الحديد، وتُعطّل بذلك أكسدتهما وتُقلّل من خطرهما.
وبالنسبة للإفرازات الحيويّة الأُخرى، كاللّعاب والدّموع والإفرازات الرّئويّة والهضميّة والمهبليّة، وكذلك الحليب عند المرضعة، فهذه المادّة الّتي تُوقف أو تُقلّل من خطر وجود ذرّات الحديد أو اللَّبن (حَديديّة الحرّة – Lactofer rine) تُدعى اللاّكتوفّرين.
وتلعب هذه المواد دورًا هامًا في منع تفاقم الالتهابات المُترتّبة عن الجراثيم الّتي تتغذّى خصّيصًا بالحديد، وسوف نرى في الفقرة الأخيرة من هذا البحث أنّ كلّ الجراثيم، وبدون استثناء، تزداد تكاثرًا وقوّة، وحدّة في ظهور التعفن كلّما كان الوسط يحتوي على نسبة مُهمّة من الحديد.
- الأنسجة
كما رأينا، فكلّ الحديد المأخوذ من الغذاء، والمار إلى الدّم، يجب أن يجتمع بالمادّة الزّلالية العَبر- حّديديّة والّتي تقوم بدور ناقل الحديد لجميع الأنسجة والخلايا المُحتاجة له، لهذا فالخلايا الدّموية الأم أو الأوليّة (ذات النّواة) تحتوي على مُستقبلات لهذه المادّة الزّلالية ولذرّتي الحديد الموجودتين عليها. وبهذه الطّريقة، يسهُل دُخول الحديد للخلايا الدّمويّة الأوليّة، والّتي ستُصبح فيما بعد، كريات حمراء مُحمّلة بالحديد.
وكثافة هذه المُستقبلات في الخلايا، تتغيّر حسب احتياج الخلايا لذرّات الحديد، فهي ترتفع بفضل مادّة زلاليّة أُخرى تُدعى Iron Receptory Protein(IRP) – إذا كان هناك خصاصة في الحديد داخل الخليّة -، وعند عبور المركّب المُكوّن من ذرّتي الحديد ووحدة العبر حديديّة إلى داخل الخليّة، يتحلّل هذا المُركّب Hémoglobine فيتحرّر الحديد، وتنطلق ذرّاته في الخلايا حيث تُشارك في تكوين اليحمور الدموي وبعض الإنزيمات، أو يُخزّن على شكل مادة الفيرّتين Myoglobine واليحمور العضلي أو الحُديّديّة، أمّا وحدة العبر- حديديّة الفارغة، فتنطلق خارج الخليّة للاتصال بذرّتين Ferritine أُخريين من الحديد وحملهما للخلايا.
إقصاء الحديد:
نفقد ما يقرُب من غرام ونصف من الحديد يوميًا، في الفضلات ومع الخلايا التالفة، وفي العرق والدموع، والمرأة تفقد الكثير من الحديد مع الدورة الشهرية والولادة والرضاعة التي تفقد خلالهم ما يقرب من 12 إلى 15 مغ يوميًا.
اضطراب استقلاب الحديد
إذا اختلّ أيض الحديد، نقع في وضعية النّقصان أو وضعيّة التّراكم وهما اللّتان تُساهمان في ظهور أعراض مرضيّة مُختلفة، فالإنسان إذن مُعرّض لخطرين: الأول هو الفقر الحديدي أو الأنيميا بسبب نقص أو قلّة امتصاص الحديد الغذائي، والثّاني هو ارتفاع نسبة الحديد وتراكُمه ممّا يتسبّب في ظُهور الشّقوق الحُرّة المعروفة بخطورتها، ولكن ولله الحمد، فجسم الإنسان مُزوّد بمواد زُلاليّة مُتخصّصة في أخذ ونقل وتخزين واستعمال الحديد، رأينا منها، العبر- حديدية أو الترانسفرين التي تنقل الحديد من الدّم ومن الخلايا وتطمس في نفس الوقت خطر وجوده كجُزيء حر، وكذا الحديدية أو الفرّتين المُتخصّصة في تخزين الحديد الزّائد، وأخيرًا، مُستقبل العبر – حديدية الموجود على غشاء كلّ الخلايا والّذي يُمثّل الباب أو المدخل الّذي يُقنْن دخول الحديد حسب احتياج الخليّة له.
- فقر الدم الحديدي أو الأنيميا: وهو نوعان:
- الفقر الحديدي الوراثي، وهو ناتج عن عجز في الخلايا عن صُنع الخضاب الدموي – أو اليحمور – اللائق، ممّا يؤدي إلى تكوين كريات حمراء صغيرة الحجم، عاجزة عن حمل الحديد، وعاجزة بالتّالي عن القيام بدورها في نقل الأكسجين وتنفّس الخلايا، ويسمّى هذا المرض بـ “المايكروكروماتوز”.
- الفقر الحديدي بسبب ضياع الدّم (النّزيفي أو غير الوراثي)، والسّبب الأول لهذا المرض، هو عدم استطاعة الغذاء تعويض الحديد المفقود جرّاء نزيف حاد مثلاً، أو عقب أنزفة صغيرة ومستمرّة كالطّمث، وكذلك من جرّاء الحمل والولادة، إذ أن المرضع تهب طفلها ما يقرب من 0,5 غ من الحديد في اليوم.
وفقر الدّم يُرافق دائمًا بضعف في القدرة الجسيمة والفكرية، وكذا بضعف في المناعة، ويُعتبر هذا المرض في بعض الدول الإفريقيّة الفقيرة، السّبب الأول في وفاة الأطفال والرضّع، ممّا حمل المُنظّمات الصحيّة على مُحاربته بإضافة الحديد في الأغذية الرئيسية كالدّقيق.
- تراكم الحديد… الأسباب والنتائج:
تُعتبر كل الدراسات الحديثة عن عوامل تراكم الحديد في الخلايا والدّم، وأضراره على مُختلف أجهزة جسم الإنسان في سنة 2006، وسُمّيت OMS، وليدة دراسة عُظمى قامت بها مُنظّمة الصّحة العالميّة خاصة الدّراسة: مشروع أطفال جنجبار، حيث انطلقت هذه الدراسة كبرنامج لحماية الأطفال في سن الرضاعة وفي الطّفولة الأولى (حوالي 2400 طفل)، في جزيرة صغيرة من جُزر جنجبار، تُدعى جزيرة بامبا، من فقر الدّم الحديدي، حيث بيّنت التّحاليل الأولية الّتي قام بها أطبّاء البعثة أنّ 4/3 الأطفال، مُصابون بالأنيميا جرّاء نقص شديد في كمية الحديد في الدمّ، فانطلقت عملية تصحيح هذا النّقص بزيادة جُزيء الحديد في الأغذية بالنّسبة لنصف عدد الأطفال، أي 12000 طفل، لكنّ هذه العملية توقفت قبل أوانها، إذ لوحظ ظُهور التهابات خطيرة وكذا ارتفاع في نسبة الوفيات عند الأطفال الذين تناولوا إضافة الحديد، بنسبة 15%، مُقارنة مع الأطفال الآخرين الذين لم يتناولوا الحديد المُضاف، وكان تعليق الأطبّاء المُتخصّصين على هذه الظاهرة، هو أنّ هؤلاء الأطفال الّذين يُعانون من الأنيميا، هم في الواقع يُعانون من تراكم جُزيء الحديد في دمهم، جرّاء الحمّى الصّفراء التّي تعمل على تحطيم الكريات الحمراء، وخروج جُزيء الحديد من داخلها – حيث كان مُقيّدًا باليحمور – إلى الدّم مُباشرة، وهذا الحديد الحرّ، يُصبح سامًا وخطيرًا كما رأينا، فإذا أضفنا فوق ذلك، جزيء الحديد في الغذاء، نكون قد جاوزنا النّسب المُحتملة لهذا النّوع من الحديد الحر في الدّم، ممّا تسبّب في تدهور الحالة الصّحية والوفاة عند هؤلاء الأطفال.
- مرض “تراكم الحديد الوراثي”:
وهو مرض منتشر نسبيًا (0,16% إلى 0,46%)، وسببُه هو تغيّر طفيف في الصّبغيّ المسئول عن إغلاق مُستقبل الحديد (المحمول على العبر – حديدية) على HFE صنع مادّة زلالية تُدعى غشاء الخلايا عندما تكون الخلية قد أخذت اكتفاءها من جزيئات الحديد الآتية من التّغذية، وهذا التغيير في الصّبغي، وما يُرافقُه من تغيير في التّصنيع، يجعل المادة الزّلالية غير قادرة على إغلاق المُستقبل، ممّا يترك الباب مفتوحًا أمام هجوم جُزيئات الحديد على الخلية، فتكون النّتيجة، خلايا وأنسجة مشحونة بالحديد الضار. وتبدأ أعراض هذا المرض في الظّهور عند سنّ الأربعين بالنسبة للذّكور، وفي سن الخمسين – أو أكثر – عند النساء، وأسباب هذا الفرق هي الدورات الشهرية وحالات الحمل والولادة، وما يرافقها من نزيف، ممّا يقلل من تراكم الحديد في الدم، وتبقى الحجامة هي الحلّ الوحيد عند الرجال لتفادي أعراض هذا المرض.
ومن علامات تراكم الحديد، التّلون الزائد للجلد، وخاصة الوجه والثّنايا، ظهور تليّف في الكبد، هشاشة العظام (خاصة مشط اليد والقدم)، وظهور مرض السكري، وكذلك نقص واضح في إفرازات الغدّة الدّرقية. ويتعقّد هذا المرض في العقود الأخيرة من العمر بسبب الذبحة الصّدرية – الناتج عن ضعف في إيقاع نبضات القلب – أو بسبب تسرطن خلايا الكبد المشحونة بجزيء الحديد.
ويمكن، عند بدء ظُهور بعض التناذرات الخفيفة، كالإعياء وآلام المفاصل، عمل التّحاليل البيولوجيّة السريرية، لمعرفة ما إذا كان سببها هو ارتفاع نسبة الحديد، وذلك لأخذ الاحتياطات قبل السّن التي تبدأ فيها الأعراض الهامة والصّعبة في الظّهور.
والتحاليل البيولوجية اللازمة للتأكد من وجود مرض تراكم الحديد هي:
- الحديد الدّموي: ويجب ألاّ يفوق 20 مم/ل.
- العبر – حديدية: وهي أحسن مؤشر لمعرفة نسبة الحديد الحر أي الضّار، ونسبة تغطيّتها يجب أن لا تتعدّى 15%.
- الحُديديّة: وهي كما رأينا مادّة تخزين الحديد في الخلايا، ونسبتها العادية تتراوح بين 100 إلى 300 مغ/ل.
العلاج الرئيسي لهذه الآفة الوراثية هو الحجامة، والّتي تعمل على خفض نسبة الحديد الضّار، إذ أنّ أيّ عقار يُأخذ كدواء، لا يُمكنه التّفريق بين الحديد الضّروري والحديد الضّار.
- مرض “تراكم الحديد المكتسب” (غير الوراثي):
وهذا المرض يُمكن أن يظهر جرّاء عدّة اضطرابات تهُمُ بالدّرجة الأولى الكبد ثمّ الدّم ومُكوّناته، إذ أنّ هذين النّسيجين هما الهدفين الرئيسيين لجُزيء الحديد الضّار والمُتراكم، ومن أهم هذه الاضطرابات:
- التناذر المتعدد الإستقلاب:
عندما نُلاحظ عند المريض خلط في الأعراض، وتعدّد الاضطرابات كالسّكري والسّمنة وارتفاع الضغط وانتفاخ في الكبد واضح بعد الإيكوغرافيا (التشخيص بالذبذبات فوق الصوتية)، فيجب في الحال تحليل مخزون الحديد عنده لمعرفة ما إذا كان هو سبب هذه الأعراض.
- ومن أمراض الدم:
أمراض تهمّ بالدرجة الأولى حالة الكويرات الحمراء واليحمور الذي تحتويه، وكذلك حالة النّخاع العظمي الذي تُصنّع فيه كلّ الخلايا الدموية، فالكريات الحمراء تحتوي على مادّة زلاليّة تدعى الغلوبين مرتبطة داخلها بعدة ذرّات من الحديد، في تشكيلة تدعى اليحمور أو الخضاب الدّموي، المُكلّف بنقل الأكسجين من الرئتين إلى كلّ الخلايا والأنسجة في الجسم، فإذا ضعُفت جودة الكريات الحمراء أو كميّتها، أو جودة اليحمور (وهو ما يدعى بالأنيميا أو فقر الدم)، وجب علينا، كي لا تتأثر الخلايا والأنسجة الأخرى بنقص الأكسجين، القيام بعمليات حقن الدم، وبذلك نجد أنفسنا أمام حالة تراكم حديد مكتسبة.
- تراكم الحديد والسرطان:
Carcinome أوّل من طرح التّساؤل حول علاقة تراكم الحديد بظهور أورام غددية وخاصة الكبدية منها هي مجلة طبية فرنسية تدعى “الحديد والسرطان”، حيث أكّدت دراسة قام بها فريق متخصص (73)، وبعد عدّة أبحاث سريرية، دور الحديد كعامل مساعد لتولّد السرطان الغددي، ثم ظهرت بعد هذه الدراسة أبحاث متطورة لتأكيد هذه العلاقة، حيث قامت مختبرات مختصة بعدّة تجارب على القوارض، فكانت النتيجة أن تقديم جزيء الحديد في الأكل أو عن طريق الحقن يساعد على ظهور أورام نامية شاذّة (خبيثة)، وعند الإنسان قدّمت من الدانمرك ومن بريطانيا أرقام مهولة عن نسبة مرضى تراكم الحديد بأورام المريء والجلد (الدانمرك)، وأورام القولون والرئة (بريطانيا)، ولكن، وحتى الآن، لازالت الآراء تتأرجح بين مؤيد ورافض لهذه العلاقة، ونظرًا للإنتشار الذي يعرفه مرض السرطان بالمقارنة مع مرض تراكم الحديد.
المناقشة:
هذا البحث هو تفسير جديد للآية 25 من سورة “الحديد” يخصّ هذه المرة الرؤية العلمية والطبية للآية، قد نتمكن من ضمّه – كتفسير حديث – إلى التقاسير الجليلة للعلماء الموقرين من السلف، والتي اهتمت بالرؤية الحربية والعتادية للآية.
وقبل الختام فإنني أرى ضرورة دراسة كافة أوجه الإعجاز في هذه الآية، وأود أن أؤكد على فكرة كنت قد طرحتها في مقال لي بعنوان: “العلم: وثنية العشرين”، وهي أنّ كلّ آية كريمة في الذكر الحكيم، تجد حسب العصر وحسب تقدّم وتطور الميادين العلمية والطبية والتقنية، تفاسير ملائمة ومطابقة لهذا التطور والتقدم، وهذا في حد ذاته هو “إعجاز القرآن”، إذ، ونظرًا لكونه آخر المعجزات، يتميز بخاصية تحمل آياته لكل التفاسير الصحيحة التي تتجدد مع تقدم العلوم والتكنولوجيا. هذا البحث هو إذًا عبور بتفسير الآية الكريمة، من رؤية الحديد كمجرد معدن لا يصلح إلاّ لصنع الأسلحة والعتاد الحربي وأدوات الحرث والرّي، إلى رؤية جزيء الحديد كعنصر أساسي في جسم الإنسان والحيوان، له منافع عديدة، وكذلك له أضرار كثيرة (“بأس شديد”).
كثير من العلماء والأطبّاء المعاصرين تكلّموا عن جزيء الحديد ومنافعه للجسم (د. الدويك، د. القدسي)، مع التأكيد في كل مرة على “منافع” هذه المادة الثمينة التي شرفها الله عز وجل – من بين كل المواد الكيماوية – بتسمية سورة كاملة بها، ولكن هؤلاء المتخصصين في العلوم الطبية أو الغذائية، لم يركزوا على المعلومة الربّانية الأخرى وهي “البأس الشديد”، ونظرًا لأن كل كلمة (أو حرف) في القرآن الكريم، يجب أن تحسب وتوقر وتأخذ بعين الاعتبار، شكلاً ومضمونًا، فذكر كلمة “بأس” في الآية قبل كلمة “منافع”، وتزيدها بنعت “الشديد” يتلاءم ويتوافق مع هذا البحث الذي يظهر كثرة أضرار جزيء الحديد وأخطاره على الجسم بالمقارنة مع منافعه وفوائده.
وثاني الملاحظات هي كلمة “للناس” التي قد تعني – وبكل دقة – بعد هذه الرؤية: “لصحة الناس”، “لحياة الناس”، “لجسم الإنسان”… كقوله سبحانه وتعالى عن العسل: “فيه شفاء للناس”، ولكن، وفي عصر كان وجود الحديد – كجزيء أو كعنصر أساسي في جسم الإنسان- مجهولاً تمامًا، لم يكن من المناسب، لما قد يتسبب ذلك في زيادة الرفض والهجوم على الإسلام والمسلمين، إعطاء المزيد من التدقيق عن كل الحديد الموجود، والذي يستعمله الإنسان سواء في غذائه – كجزيء – أو في أعماله وحروبه – كمعدن – رحمة من الخالق بضعف إدراك عباده.
الخاتمة:
إذن: هذا البحث المتواضع جزء بسيط مما توصل إليه الطب والعلم عن الأضرار التي يتسبب فيها جزيء الحديد على جسم الإنسان، ولكن الهدف منه هو الإقرار بأن الآية الكريمة، وككل آيات الذكر الحكيم، تواكب آخر الاكتشافات العلمية وآخر ما توصل إليه الطب، وذلك بدقة مستوفاة ظهرت في تقديم البأس على المنافع وتزويده بنعت الشديد، فسبحان الله تعالى في خلقه وله الحمد والشكر على كتابه المجيد الذي لم يفرط فيه من شيء، ولا يسعني، بعد كلّ هذا، إلا ترديد قوله عز وجل: (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) (النحل: 17).
______________________________
*وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مع المراجع كاملة العودة الى الموقع www.eajaz.org