إعداد خالد حنون

 

عندما نزلت: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ [38] وَمَا لا تُبْصِرُونَ[39]}(سورة الحاقة)، على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان طبيعيًا أن تتجه الأنظار إلى الشمس والقمر والكواكب والليل والنهار وما إلى ذلك من عظيم خلق الله في كونه التي تُرى حتى تزيد يقين المؤمنين في قدرة الله وعظمته. أما فيما لا يُرى فهي قسمين: قسم لن يراه الإنسان في هذه الدنيا مهما بلغ من علم ومقدرة كالجنة والنار والملائكة … وقسم يمكن أن يراه بالواسطة عبر أجهزة معيّنة كلما ازدادت مقدرته العلمية كالكواكب والمجرات أو الكائنات المتناهية في الصغر … وهذا القسم تركه الله للإنسان العالم ليكتشف تلك المخلوقات ليعيد تثبيت الإيمان من جديد في قلوب المشككين قبل المؤمنين.

ولعل الميكروبات من أكثر تلك المخلوقات التي تبرز إبداع الله في خلقه كونها كانت على مر العصور الغابرة مجهولة الوجود مع ظهور آثارها في كل مكان. وإذا أردنا تبسيط التعريف بها يمكننا القول “إن الميكروبات هي تلك الكائنات التي يدعوها الإنسان بأسماء عدة، منها العفن والخميرة والطحالب… وإذا شئنا إطلاق أسمائها العلمية قلنا إنها البكتيريا والفيروسات والفطريات الدنيا والطحالب الدنيا(1). هذه المخلوقات تجعل دارسها يقف مشدوهًا أمام عظمة خالقها فكل نوع من أنواعها يكمل عمل من يسبقه أو كل نوع له وظيفة تختلف عن غيره وكل هذا يحصل بصمت ودون منة من أحد. ومن الأكيد أن ما لا نعلمه أعظم مما نعلمه ومهما خطّينا على الورق من كلمات سيظل الواقع أكبر من أن يحاط به أو بجزء منه.

أماكن تواجدها وتكاثرها ونسبها

لا يعرف الكثيرون منا أن الميكروبات تتواجد أينما تكون هناك حياة على وجه الارض. “فنحن نأكل وننام ونعيش ونتنفس بين الميكروبات. وهي حقيقة لم يتوصل إليها الإنسان إلا ببطء خلال السنين المائة الأخيرة أو نحوها”(2).

وعلى سبيل المثال “يحتوي كل غرام من التربة الخصبة على نحو مائة مليون من الخلايا البكتيرية الحية وإذا شئنا استخدام صورة مألوفة فإن ألفًا من البكتيريا جنبًا إلى جنب تماثل رأس دبوس”.

ويعزى تكاثر الميكروبات بشكل رئيسي إلى سببين: الغذاء والدفء. فهناك مثلاً بكتيريا تنقسم خلاياها مرة كل 11دقيقة والكثير منها تتضاعف أعدادها مرة كل 20-30 دقيقة وأبطؤها تتضاعف أعدادها مرة كل ساعتين اوثلاث ساعات. وهذا بالطبع معدل مذهل إذا ما قيس بأغلب الكائنات الحية”. (3)

وقد وجد العلماء أن 3% من الميكروبات مسؤولة عن الأمراض البشرية المعدية، وحوالي 10% منها تنتهز فرصة ضعف الإنسان لتنقض عليه مسببة له الأمراض، أما الغالبية الساحقة من الميكروبات 87% فتعمل في خدمة الانسان. (4)

أنواعها

على الرغم من أنّها مكوّنة من خلية واحدة وبأشكال وأنواع عديدة إلاّ أنّها تستطيع أن تقوم بكل العمليات الحيوية من تنفس- منها ما لا يستطيع العيش بوجود الأوكسجين – وتغذية وتكاثر. وهي لا تعرف الكلل ولا الملل في الانقسام والتكاثر إذا ما تهيأت لها الحرارة والغذاء فهناك أنواع تتكاثر في الأجواء والمحيط المتطرف كالحموضة والحرارة العالية، أو المنخفضة ،أو المحيط المالح … وهي تتغذى إمّا على الفضلات أو تتعايش مع مخلوقات أكبر على مبدأ المنفعة المتبادلة أو لتسبب له المرض. (5)

الحكمة في كونها هكذا

ويتبين للباحث ان من لطف الله في الإنسان أن جعل هذه المخلوقات متناهية في الصغر وذلك لسببين:

الأول: لو أن هذه المخلوقات التي لا تحصى كانت أكبر لاختل ميزان الحياة وضاقت الأرض بالإنسان ونغّصت عليه حياته. لهذا عوّض الله أحجامها الضئيلة بأعدادها الهائلة ليحافظ على فعالية وظائفها.

الثاني: لو قدّر للإنسان أن يرى أشكال الفطريات والجراثيم التى تتواجد على جلده أو في فمه أو معدته وهي بالمليارات لوقع مغشيًا عليه في أحسن الأحوال ولظل مكتئبًا وخائفًا طوال عمره من مشاهدة أشكالها وأنواعها. فسبحان من {…َخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا[2]} (سورة الفرقان).

وظائفها الايجابية

للميكروبات وظيفة كبيرة في المحافظة على استمرار الحياة على الأرض كما أنها ممكن أن تكون سبب في هلاك هذه الحياة ومعها الإنسان. وإذا ما فصّلنا الحديث عنها في هذا المجال نجد أن الله أوكلها بتخليص الإنسان من فضلاته بإعادتها من جديد إلى مواد عضوية أو مواد غير ضارة على الأقل، كالتي في التربة عبر عمليات معقدة. وهنا تؤدي هذه المخلوقات المجهرية أعظم وظائفها قيمة للجنس البشري. ولنتخيل كيف تبدو الأرض لو أن النفايات بقيت كما تركها الإنسان، والخشب لم يتعفن، وظلت الأشجار تنبت ولا تفنى، والحديد لم يصدأ، والأجساد لم تتحلل. إنه موقف مستحيل بالطبع، لأن الدورات الحيوية كانت ستتوقف مند زمن طويل. {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[55]} (سورة طه).

الميكروبات مسخّره للإنسان

أصبح الإنسان بفضل ما أعطاه الله من علم وعقل قادرًا على تسخيرها لخدمته في مجالات كانت قبل سنوات قليلة من باب الخيال العلمي. فعبر الهندسة الوراثية بات يستعمل انواعًا من المكروبات كلقاحات ضد الفيروسات والميكروبات الممرضة. وليس هذا فحسب بل أصبحت الميكروبات تخفف من مشاكل البيئة مثل الذي حصل في ألاسكا عام 1989 من تسرب للزيت الخام حيث رشت كميات كبيرة من جرثومة Pseudomonas فوق بقعة الزيت التي حولتها إلى مواد غير ضارة. وكذلك لدى هذا النوع من الجراثيم القدرة على العيش وسط بعض المبيدات والمعقمات الجرثومية وتستطيع أن تحول الزئبق والسموم بالتعاون مع بعض الجراثيم الأخرى إلى مواد غير سامة بعد أن تتغذى عليها وتحولها إلى مركبات أخرى. كما أن هناك آفات زراعية لم يستطع العلماء القضاء عليها إلا بميكروب آخر من عائلة Bacillus … (6)

أما عن استعمال الميكروبات في الأطعمة والمتمثلة بالخمائر فالحديث عنها يطول ويمثل الخبز والألبان والأجبان أفضل الأدلة على ذلك هذا إذا استثنينا الصناعات الغذائية الحديثة وكيفية تحضيرها (7).

الميكروبات ووظائفها العقابية

جعل الله للميكروبات مهامًا كثيرة وعديدة من بينها أنها يمكن أن تكون عقابًا للعصاة يبعثها الله عليهم على شكل وباء فلا يبقي منهم أحدًا. ويمكن أن تكون عقابًا إفراديًا لزانٍ مثلاً على شكل مرض وما أكثرها من أمراض، أو لمتهاون بإحدى نواهي الله كأكل لحم الخنزير حيث ظهرت جرثومة جديدة اسمها) يارسينا)، وهذه الجرثومة لا توجد إلا في الخنزير فقط، ولا تعيش إلا في درجة منخفضة جدا هي – ٤٠ م، وهذه الجرثومة يصاب بها كثير من الأوربيين، وكثير من إصابات العمود الفقري والمفاصل ترجع إلى هذه الجرثومة. (8)

كما يمكن أن تأتي توبيخًا للناس على قذارتهم فالميكروبات لا تتكاثر إلا في هذه الأجواء. ويمكن أن يمتحن الله بها إيمان بعض المؤمنين ويبلوهم بها ليغفر لهم ذنوبهم. {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [40]}.(سورة النساء)

لماذا علينا أن نعرف أكثر عن خلق الله

أمر الله الإنسان المتمثل بسيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام في أوّل آية نزلت عليه أن يقرأ فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (سورة العلق) هذه الآية تدل على أن العلم باب من أبواب معرفة العبد لعظمة خالقه عبر تفكره بنعمه ومخلوقاته التي لا تحصى . فالذي يخشى الله هم العلماء كما وصفهم الله في كتابه العزيز:{… إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ[28]} (سورة فاطر). فالخشية تقود إلى عبادة الله، وهذه سبب خلق الله للإنس والجن حيث قال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ[56]} ( سورة الذاريات). إذا فالإنسان لم يخلق ليأكل ويشرب وينام ويتناسل كما البهائم بل خلقه الله للعبادة والتأمل في ملكوته حتى إذا ما حصل له ذلك ألهمه معرفة مفاتيح تسخير مخلوقاته له. يقول تعالى: {الَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ[20]}. (سورة لقمان). فالإنسان بلا عبادته لله سيكون كفورًا، هلوعًا، جزوعًا، يؤسًا، ظلومًا، عجولاً، وهو لربه لكنود، وهو في خُسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . فهلاّ عرفنا من هو الله من خلال عجائب خلقه حتى نستأهل ما ينعمه علينا من نعمه المرئية وغير المرئية ومنها هذه الجنود التي لا نراها.

 _____________________________________________________

المراجع والهوامش:

1: الميكروبات والانسان. تأليف د. جون بوستجيت. ترجمت د. عزت شعلان. عالم المعرفة. الكويت ص:10

2: نفس المصدر: ص23

3: نفس المصدر: ص10

4: عجائب الميكروبات السبعة. تأليف: د. عبد الحميد القضاة . ص: 10

5: لتفصيل اكثر انظر فصل:الميكروبات والتطرف في كتاب عجائب الميكروبات السبعة. مرجع سابق

6: انظر عجائب الميكروبات. مرجع سابق. ص:62 ومابعد.

7: انظر كتاب : الميكروبات والانسان. مرجع سابق.فصل الميكروبات في التغذية.

8: انظر : مجلة الاعجاز العلمي . العدد3. مقالة: ذبح الحيوان قبل موته… وايضا العدد4. مقال: اكتشاف جرثومة جديدة في لحم الخنزير.