أ.صلاح سلام
بعد كل جولة من الفلتان الأمني أو الشغب المقصود، لإحداث تغيير ما أو فرض أمر واقع معين، يسود لدى الرأي العام انطباع بأنها الجولة الأخيرة، وبأنها درسٌ قاسٍ لن ينساه أحد، ولن ينساق إلى مثلها أحد بعد اليوم. وما أن تتعافى البلاد ويشرف الاقتصاد على الإبلال من الأزمة حتى ينشب خصام داخلي أو يطرأ عامل خارجي يدخلان البلاد في آتون الفتنة والشغب والقلق من جديد.
إن كان السبب صراعاً على السلطة فليدَعوها ديمقراطية تبقي الصراع بين أهل السياسة فقط، وعلى مستواهم، وتحفظ للناس مصالحهم ومقاعدهم للتفرج ثم للحكم على الأصلح عبر الانتخابات. ومن عرف كيف يحفظ البلاد ومصالحها، يضمن له الناس مقعده البرلماني أو الوزاري. فيصبح الرابح والخاسر مشتركين في التفاني لخدمة البلاد وهنيئاً لمن يصل.
وإن كان التدخل خارجياً فمن الأجدر عند الواعين والمخلصين أن يتناسوا صراعاتهم الداخلية وان يقفوا موقفاً موحداً تجاه الخطر الذي لا يستثني أحدا.
لكن المخيف والمؤسف أن العجز عن تحقيق الإنجازات يدفع بأغلب الطبقة السياسية إلى إطلاق الشعارات الطائفية والمذهبية والمناطقية الملتهبة، بما يثير الغرائز، وينبش الأحقاد الدفينة والموروثات البغيضة التي تعود إلى قرون غابرة، فتطفوا على سطح الأحداث، وتنسي الواعين وعيهم والمثقفين ثقافتهم، والمتدينين إيمانهم، وحتى التجار مصالحهم، ولا يعرف العداء حداً ولا أحداً، ليبلغ الجار والعم والصهر والشريك، وينساق الجميع إلى التراشق والتقاذف بالكلام قبل السلاح، فيختفي الحكماء وينزوي العاقلون، ويدخل البلد كله في آتون المزايدات، حتى الذرائع الدينية توظف لخدمة المواقف السياسية، وينخرط بعض رجال الدين في السياسات حتى آذانهم.
وترتفع أسهم أمراء الحرب ويتدهور سعر الليرة اللبنانية، عفواً أقصد سعر الألف ليرة لبنانية. ويلقى بعض الأبرياء حتفهم على الطرقات وداخل منازلهم، وينشط أبطال الزواريب، وتتجدد الحاجة إليهم لتأمين ربطة الخبز والعبور من منطقة إلى أخرى، وسرعان ما يجدون مبرراً لفرض الخوّات.
متى يعي الرأي العام أنه عرضة للاستغلال بصورة مستمرة؟ ولماذا ينسى الناس الوعود الكاذبة ولماذا لا يحاسبون عليها بصورة ديمقراطية؟ ولماذا يفجرون غضبهم من سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية في وجه مواطنين آخرين لا حول لهم ولا قوة؟
لماذا لا نحاسب المختلس كما نحاسب السارق؟ ولماذا تأخذنا حمية الجاهلية فندافع عن المذنب والمقصر ونصوره بطلا؟ مَن الأولى الفرد أم الجماعة، أيحق للكبار أن يعلوا فوق القانون؟ إنما التصعيد الطائفي والمذهبي فتنة، والفتنة أشد من القتل، لكننا لا نحاسب ولا نعاقب.
والدولة التي لا عدل فيها ولا حزم، لا هيبة لها، والعدل أساس الملك، فالقيم والأخلاق والحقوق تحتاج إلى من يحميها.
الحقيقة أن ثقافتنا تكاد تصبح هشة وخاوية وخالية من القيم، وأن فكرة المواطنية لدينا صارت عصبية وقبلية، وأن معتقداتنا الدينية انحرفت فصارت تعصباً.
الدين محبة وتسامح، وتلاقٍ وعقلانية، وبذل وتضحية، هكذا علم محمد وموسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام. فهل لا نزال نذكر هذه الأسماء؟ أم اننا استبدلناها بآلهة السياسة؟
الدين الحق ينادينا: كونوا عباد الله إخوانا.