ع.د. محمد فرشوخ
العدد الرابع والعشرون – شتاء 2013
إعتمد الحكيم في هذه الجلسة أسلوباً جديدا في مقاربة الموضوع المطروح، فتعمد بدايةً طرح وابل من الأسئلة السهلة الإجابة، كم الساعة واليوم والشهر والسنة وأسماء المبنى والشارع والحي، والطقس والفصل مستدرجاً الحاضرين للتجاوب بطلاقة وعفوية، ثم توقف متسائلاً: سألتكم وأنا الانسان الضعيف فأسرعتم في الإجابة عن كل ما يدور حولكم، والله تعالى وهو الخالق ذو القوة والعظمة والسلطان يسألنا في القرآن الكريم جماً كبيراً من الأسئلة الهامة والعميقة وهي التي تعنينا وتنجينا، فهل يحق لنا أن لا نجيب ولا نستجيب؟
رب سائل بريء أو خبيث يقول: (وهل يكلمنا الله؟)، والجواب ورد في الأثر: “إذا أحب أحدكم أن يحدث ربه فليقرأ القرآن”.
وأسئلته تعالى قول فصل ليست بالهزل، إنها أسئلة توعية ومحاولات إنقاذ، أفرأيتم؟ أمّن؟ من؟ من ذا الذي؟ هي ليست عبارات تنبيه فحسب، إنها يدٌ تمتد مع كل آية نقرؤها لتعين على نوائب الدهر ولتفتح طريقاً إلى العيش بكرامة وبسلامة ولتكشف الغمامة عن العيون والحجب عن القلوب التي لا تعيش إلا لدنيا ولمال ولهوٍ وشهوة، علّها لا تصاب بالخذلان حين ينصب الميزان.
أول الأسئلة تهدف إلى الإقرار بالربوبية وبالوحدانية: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76]، وفي اواخر القرآن نقرأ: {قل هو الله أحد}.
ومن الأسئلة ما يدعو إلى حصر القدرة على الخلق بالخالق وحده جلّ وعلا:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.(سورة النمل60-61). ثم يسألنا منبهاً لعقولنا: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17].
ويوقظ فينا العقل والقلب فيسأل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، [النمل: 62 – 64].
ومنها ما ينبهنا إلى خطورة التوكل على غيره في طلب الرزق أو طلب النصرة وغير ذلك من الحوائج: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}، [الملك: 20-21].
ويسألنا كيف نشرك معه من لا يملك من القدرة شيئا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 40 – 41]. وكيف نشرك في عبادته من كان متعلقاً ومحتاجاً لغيره: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] ثم يسألنا أين عقولكم: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:154].
ويعاتب الذين يفتون للناس مخففين: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]، وقوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]. ويسألهم من أين اتيتم بهذه البدع: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16].
ويعدهم بأنهم سيجنون سوء فعالهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ؟ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].
ويطلب منا المقارنة بين العابدين والضالّين فيسأل: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]، ويسألنا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]
يمن علينا أن أعطانا ما نريد فلِمَ بخلنا عليه بما يريد: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]
لا يترك باباً للترغيب بعبادته إلا طرقه: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } [المؤمنون: 84 – 89].
ولا وسيلة للتحذير من مغبة عصيانه إلا أنزلها في كتابه: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}، [التوبة: 65]، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}، [آل عمران-28].
ومن أسئلته تعالى ما يعاتبنا بكل عطف ومودة أين منها مودة الأهل والخلّان، على جفاء ابن آدم وجحوده وقلة وفائه: -{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12]
أسئلة تذكرنا بضعفنا وقوته، وجهلنا وعلمه، وفقرنا وغناه، وزوالنا وديمومته: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الملك: 28] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ[الملك: 30]. {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الملك: 29].
فربّ العزة يسأل والإجابة لا تكون كلاماً فقط لأن علامة الصدق الطاعة والإذعان والعمل بما نقول، إذ العلاقة مع الخالق ليست علاقة زمالة، والحوار معه ليس حوار أقران فلننتبه! فلا يكتفيَنّ بعضنا إذا سمع قول الله عزّ وجلّ: أليس الله بأحكم الحاكمين؟ بأن يجيب: “بلى”، معتقداً أنه قد حقق كل المطلوب منه، إنه تعالى يسأل معاتباً: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]. فلنكن عاقلين ولنجِب قولاً وعملاً ومعاملة.
ويسألنا: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ؟} [المؤمنون: 115]، أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى؟ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى؟ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟}، [سورة القيامة 36-40]. سؤال المعاتب في الدنيا عتاب المحب والمشفق، وفي الآخرة عتاب الحساب يليه العذاب.
ثم ختم الحكيم الجلسة فقال: يسألنا الله تعالى فهلا أجبنا واستجبنا؟ وهل لنا ونحن عباده، وهو صاحب الملكوت والجبروت أن ندير ظهورنا ونتجاهل السائل والسؤال؟ بماذا نجيبه إذا عاتبنا يوم اللقاء؟ أين نضع رؤوسنا خجلاً منه حين يقول: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ } [المؤمنون: 112] كلمتكم في الدنيا فلم تردوا، وسألتكم فلم تجيبوا ودعوتكم فلم تستجيبوا وأمهلتكم عدداً من السنين فلم ترعووا ولم تصحّحوا! أي استخفاف هذا وأي عبث وأي قصر نظر وضعف تبصّر؟
عن هذا الموقف قال ربنا جلّ وعلا في سورة “المؤمنون”: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ، قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ، إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}. [المؤمنون106-109]. وقيل للذين أجابوه واستجابوا لمّا دعاهم لما يحييهم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، فيقول الذين فازوا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74]. وانتهت الجلسة.