محمد فرشوخ
العدد التاسع – ربيع 2009
في فجر يوم ممطر وقف الشباب يرتشفون شراباً ساخناً ينتظرون وصول الحكيم وإذ بزميل لهم ينادي أن أسرعوا فالحكيم ينتظركم في القاعة، كان قد وصل باكراً وبين يديه كتاب للمؤرخ المعروف “برنارد لويس”، بعنوان “الشرق الأوسط في العصور الوسطى”.
كان في ملامح الحكيم شيء من العبوس على عكس إطلالته المشرقة المعتادة، فلم ندرِ إذا كان تأخرنا هو السبب أم موضوع الكتاب، فللمؤرخ المذكور أسلوب ذكي في سرد بعض الوقائع التاريخية التي تمس الشرق وأهله بشيء من السخرية والتعالي مقارنةً مع الحضارة الغربية ويستنتج أن الشرق لن يسود أبداً بعد اليوم ولن يتمكن من منافسة الحضارة الغربية، وأن الفوارق تتسع يوماً بعد يوم. وأن على الشرقيين أن يتخلوا عن معتقداتهم وعن التمسك بتراثهم وأن يلتحقوا بالغرب.
استرعى تقطيب المعلم انتباهنا حتى أننا نسينا أن نفتح دفاترنا ونمسك بأقلامنا، لكن سرعان ما تبين لنا أن أمر العبوس هو جزء من البحث المطروح، وأن الجلسة كانت قد بدأت.
قال الحكيم: من منكم يعرف أين مكمن الخطر على بلادنا؟ أجاب أحدنا : من الاحتلال الخارجي، وأردف آخر: من الانحلال الداخلي، قال الحكيم: عظيم، فما الذي يهيىء الظروف للاحتلال أو الانحلال؟
أخذ الحاضرون يصولون ويجولون في الأسباب والدوافع ومراحل التدهور والنتائج وأكثروا من إلقاء الملامة على داخلٍ وخارج، إلى أن حسم الحكيم الجدل قائلاً: هناك سبب واحد يكمن وراء كل هذه التبعات، ولو بحت به الآن لما اقتنع به أحد منكم ! لكن دعونا نفصّل قليلاً:
يا أحبابي كل بلاد العالم معرضة للأطماع والأخطار، والتاريخ يشهد بأن الصراع بين الأمم لم ولا ولن يتوقف، لكن الأمة التي تعرف كيف تحصّن ساحتها وتردع أعداءها وتفرض هيبتها وتبني سمعتها هي التي تضمن حريتها وكرامتها وحتى استقرارها وازدهارها.
ولكي تحقق الأمة ذلك يجب أن يكون لها موقف واحد مبني على تصور واحد، وأن يكون الناس على قلب رجل واحد، يعمل كلٌ في نطاقه على تحقيق الهدف الواحد.
ولكي يشترك الناس في المفهوم الواحد ويؤمنوا بالهدف الواحد يجب أن تكون لهم تربية واحدة، يثق بعضنا ببعض ويخدم بعضنا بعضا، يسود العدل بيننا والمساواة، ولا يرتقي إلا الصالح، ولا محاباة ولا رشوة ولا عصبية ولا تفريط في الحقوق، الغيور على وطنه يكافأ والمتهاون يلقى جزاءه سواء ألقى نفاياته في الشارع أو باع ضميره إلى جهة خارجية.
رأى الحكيم في عيون البعض علامات تململ أو امتعاض إن لم نقل اعتراض! قال: لا تقولوا أصبحنا في جمهورية أفلاطون فقد حصل مثل هذا قبل 14 قرنا ويحصل اليوم في دول أوروبا الشمالية التي استقرت حين عدلت بين الناس وأدت الحقوق ورفعت المظالم فاشتد ولاء مواطنيها لها وتعلّقهم بها. لا تنسوا أن الحرمان دليل على وجود الظلم والظلم يؤدي إلى الثورة والفوضى والعدوان. يمكن للتكنولوجيا أن تنتقل والصين اليوم خير دليل.
لكن المشكلة تبقى في الإنسان.وبمقدار ما يتكسب من القيم بمقدار ما ترتقي به الأمم. ومن أين يتكسب الإنسان القيم إذا كان يعيش في بيته ومدرسته وبيئته جهلاً عقيما؟ وهل يعلِّم من كان جاهلاً؟ نظرة الناس إلى بعضهم اليوم أقرب إلى الهمجية والعصبية والقبلية منها إلى الحضارة والإنسانية، هل تعرفون مكمن الحل؟
ساد الصمت وتاق الشباب لمعرفة الإجابة الموعودة، قال: مكمن الحل عند العالِم، ليس العالِم جبةً ولا عِمّةً ولا لِحية، هي مظاهر محيطة تساعد على توقير العلم الواسع والروح النفاذة. العالِم هو صاحب المعرفة والخبرة والاستقامة، القادر على أن يكشف خبايا النفس الأمارة لصاحبها ويدربه على ضبط غرائزها ويحرره من عقده الدفينة ويصالحه مع داخله، ويصحح له توجهه لمعرفة الحقيقة فيتغير سلوكه، ويرشده إلى طريق محبة ربه، إذ لا محبة للخلق دون محبة الخالق، ويصحح له نظرته إلى الناس كل الناس: أهله ومجتمعه وبني وطنه، وليس فقط طائفته وجماعته.
العالِم الحقيقي هو القادر على أن يُخِرج المواطن من طائفيته ومذهبيته إلى المجتمع الإنساني الرحب المنفتح، المعلم الحقيقي هو القادر على إزالة العداوة والبغضاء والشحناء والأحقاد لا الذي يغذيها وينمّيها ليتعيّش عليها ويقتات من ثمراتها الخبيثة. فالمجتمعات التي تُبنى على الحقد لا تعمّر طويلاً، لأن الحقد والغضب نار، والنار تشب بسرعة وتخبو بسرعة بعد أن يأكل بعضها بعضا.
العالِم هو الذي يعلم الناس الخير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” اللهم صلِّ على معلم الناس الخير”. الخير بكل أنواعه من تسامح وتضحية ومحبة وخدمة، ومن لا يحب لا يسامح ولا يضحّي.
فكرة الأمة التي ننشدها ليست تنظيراً ولا استحالة فقد كانت موجودة من قبل بشهادة الله تعالى، حيث ذكرها بشروطها الثلاثة:{كنتم خير أمة أخرجت للناس -تأمرون بالمعروف -وتنهون عن المنكر -وتؤمنون بالله}.
وفكرة التغيير مرهونة بقرارنا، لقوله تعالى: {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}.
ولنعتبر فإن بني إسرائيل رفضوا التغيير وعصوا موسى ففرض الله عليهم التيه أربعين سنة حتى جاء منهم جيل جديد قرر أن يخرج من الذل والهوان. وهل من تيه أصعب من التيه الذي نعيشه نحن اليوم؟
يا أحبابي، مثل هؤلاء العلماء على ندرتهم يعيشون بيننا ثم يتوفون إلى رحمة الله دون أن نتقرب منهم أو نستفيد مما حباهم الله به، شُغِلْنا عنهم بما هو أدنى وأحقر، وأخشى أن نُسأل عنهم يوم القيامة فمن وجد منكم هذا العالِم فليلازمه وليقتبس منه وليقتدِ به، قال تعالى في حقهم:{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}. يبقى أن نتفكر ونتدارس حتى نستشعر الحاجة إليهم، فنهبّ للبحث عنهم… وانتهت الجلسة قبل أن يرتوي جلساؤها.