ع.د. محمد فرشوخ
العدد السادس والعشرون – صيف 2013
مع شروق الشمس كان الصفاء والسكينة يلفان المكان، بعد أن أتم الجمع صلاة الصبح وقرأوا الورد وذكروا الله تعالى، فحان موعد الموعظة التي بدأت بعشر من القرآن الكريم من سورة الرحمن وبصوت نديّ: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)}.
فتِح المذياع بعد ذلك للحكيم، الذي أطرق مفكراً ليخرق الصمت بكلمة واحدة مجلجلة: الله، سرى الاسم الأعظم وكأنه مفتاح للقلوب وتنبيه للعقول أن اسمعوا وعوا. واندفع يقول:
“كل يوم هو في شأن”، سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يَغْفِرُ ذَنْبَاً، وُيُفَرِّجُ كَرْباً، وَيَرْفَعُ قَوْماً، وَيَضَعُ آخَرِينَ.
آية واحدة تحمل في طياتها معانٍ لا حد لها، قال فيها المفسرون الكثير وبقي من معانيها الكثير. قالوا فيها: “يُجِيبُ دَاعِيًا، وَيَكْشِفُ كُرْبًا، وَيُجِيبُ مُضْطَرًّا.. “، وقالوا: لا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض، يُحْيي حَياً، ويُمِيت ميتاً، ويربي صغيراً، ويذلّ كبيرا، وقالوا: يعطي سائلاً أو يفكّ عانياً، أو يشفي سقيما. وقالوا: يخلق خلقاً، ويحدث أمرا، وقالوا: يسوق المقادير إلى المواقيت.
وقال أحد كبار الصالحين: أمور يبديها ولا يبتديها، يرفع أقواماً ويخفض آخرين. أي أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة لكن من حكمته ان لا يظهر كل أمر إلا في وقته وعند استحقاقه. فالناس في أعمالهم والله تعالى في تدبير شؤونهم.
لو سأله أهل السماوات والأرض جميعا في لحظة واحدة كان أهلاً لسماع الجميع وفهم مطلب كل منهم وتلبية ما يشاء لهم وما نقص ذلك من ملكه شيء ولا انتقص ذلك من قدرته شيء.
لا يشغله شأن عن شأن، يسمع كل الأصوات بكل اللغات ولا تختلط عليه المسائل ولا يتبرم من إلحاح الملحين، ولا يغلق بابه بوجه السائلين، مؤمنين وكافرين، مراقبين وغافلين. إنه ربهم جميعا وخالقهم جميعا سواء اعترفوا أو لم يعرفوا ذلك له.
لم يخلقهم ليهملهم بل خلقهم وعيّن أرزاقهم وهم أجنة في بطون أمهاتهم، أمهلهم حتى يعبدوه واستجاب لهم قبل أن يستجيبوا له، أحبهم قبل أن يحبوه قال تعالى: “يحبهم ويحبونه”. هو قيوم السماوات والأرض، قائم بالقسط، {يخلق مَا يَشَاء}، {يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور}، {إِنَّه بِكُل شَيْء عليم}.
هُوَ مُنْتَهَى حَاجَاتِ الصَّالِحِينَ وَصَرِيخُهُمْ، وَمُنْتَهَى شَكْوَاهُمْ. ترتفع في كل لحظة ملايين الأصوات والاستغاثات والطلبات والتمنيات والآلام، لا يسمعها جميعاً إلا الله ولا يقدر على تلبيتها إلا الله ولا يقدّر العطاء فيها إلا الله.
وحده الله جلّ وعلا، يسير الأمور إلى منتهاها ويحول دون تحريفها عن مبتغاها. كلما مكر قوم رد مكرهم إلى نحورهم وكلما همّوا بمنكر درأ عن الضعفاء أذاهم وحوّله إلى من قدّر ذلك لهم.
لا يعجل لعجلة أحد حتى يقضي أمراً كان مفعولا، يعيي المتآمرين ويرد كيد الكائدين. ولا يكون إلا ما يريد. الكون ملكه، لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير. إنه الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، لا يضل ربنا ولا ينسى، هو أقرب إلى كل عبد من حبل وريده، بحيث يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهو بكل شيء عليم. يعلم حاجته من قبل أن يسأل ويعرف نيته من قبل أن يقدم على الفعل.
إن أراد أن يوصل الرزق إلى محتاج جنّد له جنود السماوات والأرض لا معطي لما يمنع ولا مانع لما يعطي.
لا يبتلي أحدا جزافا إنما ليكشف صحة النوايا أو زيغ القلوب. يحول بين المرء وقلبه حين يبقى مصراً على المعصية، يحسّن في أخلاق قوم جراء معروف فعلوه أو دعاء أخلصوا فيه، ويفسد في أخلاق قوم جرّاء منكرٍ ارتكبوه أو إهمال نعمةٍ فرّطوا فيها.
يعلم ما يلج فى الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، يبديء ويعيد في الخلق وفي الآيات وفي التوبة وفي الزرع وفي الأكوان وفي الأرحام..
واليوم عنده قد يكون لحظة وقد يكون آلاف السنين وفقاً لما يقتضيه الحال وبحسب هول الأمر المكتوب ونوع الفعل المطلوب.
تدبيره ليس له حدود ولا يمسه فيه نصب ولا لغوب، من التصرف بالسماوات وما فيهن إلى أصغر ذرة وخلية في جسم عبد من عباده إلى كل ورقة تسقط من شجرة ولا استثناء لا في رطب ولا يابس.
قادر على الشفاء كاقتداره على الابتلاء. لا يتألى أحد عليه إلا نقل البلاء إليه. يختص برحمته من يشاء من عباده هو بكل منهم أعلم وأحكم وأعدل وأرأف وأحلم.
خلق ثم استوى ليدبر وتنزه عن أن يخلق ليهمل ويدمر. تعالى عن الإهمال والشطط والنسيان والنوم والغفلة:{ … يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}.
وفي الحديث الشريف:-ح:” إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ. يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ. يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ “.
سئل موسى عليه السلام: هَلْ يَنَامُ رَبُّكَ؟ فأوحى الله تعالى إليه: يَا مُوسَى، لَوْ كُنْتُ أَنَامُ لَسَقَطَتِ السَّمَاوَاتُ عَلَى الْأَرَضِينَ فَهَلَكَتْ …يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}.
سمع قول التي تجادل النبي في زوجها، كما سمع يأس نوح من قومه واستغاثة يونس ومناجاة إبراهيم ودعاء امرأة عمران، ورجاء زكريا وكذلك سمع ويسمع دعاء الملايين في كل حين.
قيوم السماوات والأرض، كل شيء بتدبيره حاكم يسقط فينفى أو يسجن أو يقتل، وحاكم جديد يتصدر، غني يفتقر وفقير يغتني، عاقر يلد ووالد لا يبقى له ولد، بناء يعلو وبناء يخر على ساكنيه، شعب خامل وفجأة يصحو ويثور، أمة مستغرقة في الترف والبذخ والإسراف، تصحو على إعصار وزلزال ودمار، فمن المتصرف؟ وهل يجري شيء من ذلك إلا بعلمه وتدبيره وحكمته؟
خاب وخسر اولئك الذين ظنوا أن الأمر بأيديهم، وأنهم لن يبعثوا ولن يحاسبوا، فقد عتَوا عتوّا كبيرا، وهنيئاً لمن رضوا بما قضى وقدر، وعملوا بما هدى وأمر، فدخلوا في عين عنايته وفازوا بعظيم مكافأته، إنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يضل ولا ينسى، جلّ جلاله. فثقوا بأنه يسمع ويرى ويستجيب ويغيث، وأكثروا من مناجاته، بجميع أسمائه وصفاته.
أيها الأحبة: هذا شأن المولى تعالى، فما شأننا نحن بالمقابل؟ البلاد تحترق والبيوت تهدم والأعراض تفتضح فأين التضرع وأين الالتجاء؟ أعجِزنا أن نسأله، أم نظنه غير قادر على إغاثتنا وتفريج كروبنا، أين الثقة بالله وأين ما تعلمناه من رسول الله؟ أين الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟ أين قوّام الليل وصوّام النهار؟ أين الذاكرين؟ أين المستغفرين بالأسحار؟ هل تجمدت أيدينا عن الانفاق، ولئن جفَت قلوبنا جفّت عيوننا، قوموا ضارعين مستغيثين باكين صادقين: اللهم يا مفتح الأبواب، ويا مسبب الأسباب، ويا مقلب القلوب والأبصار، ويا دليل المتحيرين، ويا غياث المستغيثين، يا قاضي الحاجات ويا مجيب الدعوات ويا كاشف المهمات ويا دافع البليات ويا شافي الأمراض ويا مكيد الأعداء.
جلّ جلالك يا رب سبقت رحمتك غضبك، فارحمنا يا أرحم الراحمين، وفرّج كربنا يا صريخ المكروبين.
يا أحبتي، إنه خالق كل شيء والمتصرف بكل شيء، ووسعت رحمته كل شيء. ثقوا بقدرته ورحمته وبتصرفه وحكمته، وقوموا بما أمر به وانتهوا عما نهى عنه تفوزوا وتغنموا وتهنأوا. وانتهت الجلسة مع الحكيم وقمنا إلى صلاة الضحى.