ع. د. محمد فرشوخ
العدد الحادي والثلاثون – خريف 2014
كان الحكيم يشرح لطلابه موقف يهود المدينة المنورة من النبي صلى الله عليه وسلم، والطرق التي اتبعها علماؤهم للتفريق بين النبي وأصحابه ولثني الناس عن اعتناق الدين الجديد.
ومن هذه الطرق كسب ثقة المسلمين أولاً عبر الاعتراف مؤقتاً بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو النبي المنتظر، حتى إذا اطمأنت جموع المسلمين إليهم تراجعوا وأعلنوا أنهم عادوا إلى التوراة فوجدوا أنه ليس النبي الموعود لأنه من ولد إسماعيل بينما ينبغي له أن يكون من ولد هارون شقيق موسى عليهما السلام.
وكشف الله تعالى الزيغ فأنزل قوله في علماء بني إسرائيل: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].
ثم استطرد الحكيم قائلاً: هذه المحاولة التي حصلت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لا تزال تتكرر عبر الأيام والسنين والقرون، والهدف دائماً واحد: {لعلهم يرجعون}، أي لعل المؤمنين يتخلّون عن دينهم ومعتقدهم.
ومن الطرق المعتمدة إجبار المؤمنين فرادى وجماعات على تغيير دينهم بالقوة والإكراه متى توفرت للمعتدين الظروف والسلطة والقوة، كمحاكم التفتيش في إسبانيا بعد العام 1453م وصولاً إلى ما نراه اليوم في بعض بلاد الغرب من سوء معاملة المسلمين أو عبر منعهم من تأدية واجباتهم الدينية أو حرمانهم من أبسط حقوقهم المدنية كارتداء الحجاب في المدارس وفي الأماكن العامة، وعدم الموافقة على بناء المساجد أو رفع المآذن والأذان. كل ذلك {لعلهم يرجعون} عن دينهم.
ومن طرق الممانعة هذا الكم الهائل من الكتب والمنشورات والرسوم الكاريكاتورية المسيئة والمعادية للإسلام والتي تتمتع بالرعاية والحماية السياسية والقانونية بينما تقوم الدنيا وتقعد إذا ذكرت الصهيونية بسوء ولو تلميحاً ويخسر الناس وظائفهم وتدمر حياتهم ويدفن مستقبلهم، بسبب موقف محق من الفلسطينيين ولو ببضع كلمات.
ومن الطرق الملتوية والحيلة عملية كسب الثقة أولاً ثم الإغراء ثم التشكيك ثم الإخراج التام عن المعتقد وبعد ذلك يسهل تطويع المرتد وتجنيده واستغلاله واستخدامه ضد مصلحة قومه، ففي القرى النائية حيث يتدنى مستوى التعليم ومستوى المعيشة تنشط مجموعات مدربة لثني بعض المسلمين والمسيحيين على السواء عن عقيدتهم وإيمانهم. فتبدأ أولاً بكسب الثقة متظاهرة بأنها تؤمن بما يؤمن به المسلمون والمسيحيون، ثم تعمد إلى الإغراء فتخصص كل عائلة استجابت بمبلغ شهري مقطوع حتى إذا اعتادت هذه العائلات على تلقي المساعدات بدأت عملية التشكيك بالمعتقد وصولاً إلى تغييره بالكامل.
وجلّ همّ هذه الجماعات هو أن تتخلى هذه العائلات عن مبادئ دينية ووطنية أساسية بحيث تنحل المشاعر والروابط بالأرض والوطن، ويحلّ محلها الولاء لهذه الجماعات دون سواها.
والأمر في مواطن أخرى أبلغ وأعمق، فالمخططات كثيرة ومتنوعة ويبقى الهدف واحداً وهو الإساءة إلى الإيمان وتشويه صورة المعتقد والمستهدف اثنان: مؤمن لعله يخرج عن دينه وحرٌ يبحث عن عقيدة سليمة لعله ينفر من اعتناق الإسلام. وذلك {لعلهم يرجعون}.
تطورت هذه المخططات عبر القرون من الخطابات التحريضية المباشرة والتي تسببت بالحروب الضارية في القرون الوسطى، إلى الكتابات المنحازة لغالبية المستشرقين الذين لم يتورعوا عن تصوير الأمور على غير حقيقتها وعن تضخيم بعض المواقف الفردية السلبية وتعميمها.
ثم دخلت السينما على خط التحريض لتجسد كتابات المستشرقين وتبالغ فيها، فكان لهوليود الدور الأكبر تحريفاً وتحريضاً أو تهكما. تبعتها المسلسلات التلفزيونية ثم المؤسسات الإعلامية الكبرى في الغرب، هذه المؤسسات التي لا تخفي ميولها الخطيرة، والتي لا تزال تنقل الأخبار وتغطي الأحداث بصورة مغلوطة مقصودة، فالطفل العربي القتيل إرهابي والقاتل الصهيوني ضحية مظلومة تدافع عن وجودها. والمخاطب هنا هو الرأي العام في الغرب {لعلهم يرجعون} أي لتنفيرهم من الإسلام والمسلمين.
المغريات كثيرة والبرامج الفضائية الماجنة ومسابقات الفنون المبتذلة تمولها جهات خفية، وشبابنا وشاباتنا مبهورون مسحورون يسيرون خلف كل ناعق. القيم تنحدر والثقافة كذلك والجهل يطبق، ويلصقون التهمة بالدين. كل ذلك {لعلهم يرجعون}.
وآخر الطرق المبتكرة وهي أشدها خطراً وأثراً هي ما نشهده اليوم: فتح الطريق لينتصر الإرهاب وينتشر ويجذب الأنصار باسم الدين، بحيث تغدق عليه الأموال وتفرغ له مناطق واسعة ليعشعش فيها ولينضم إليه متطرفون وسوقة وجهلة ومجرمون وكذلك يجذب إليه أبرياء مؤمنون ساذجون يتقاطرون من كل بلدان العالم موقنين أن ما يجري هو من أشراط الساعة وأن المهدي عليه السلام على وشك الظهور وأن المسيح عليه السلام سينضم إليه عما قريب.
وبعد أن يتجمع هذا العدد الكبير من المتطوعين يأتي دور الحصاد بالدم. مشاهد مؤلمة تصيب كل بيت وتدمع كل عين والهدف دائما واحد: {لعلهم يرجعون}. أي أن ييأس الناس من هذا الدين بعد أن تلصق به تهمة جمع الناس في زمان ومكان غير مناسبين.
تظاهروا قبل بضع سنين بتأييد الشعوب في “ربيعها العربي” وأعطوه زورا كل الدعم العلني إعلاماً وتحريضا، ودربوا أشخاصاً وجماعات على التظاهر والتجمع وعلى إطلاق الشعارات واستثارة الناس واستدرار العواطف. وسرعان ما وجهوا الربيع العربي نحو طريق يائس ثم واجهوه ليتحول خريفاً في أقل من سنة. فييأس الناس ويتخلون عن المطالبة بالحق، {لعلهم يرجعون}.
يمزّقون الأوطان ويوقظون الفتن ويقلقون الحكام ويؤرقون المسؤولين حتى يصاب الناس بالإحباط والدول بالفشل وكل ذلك{لعلهم يرجعون}.
فماذا عسانا فاعلون؟ هل نحن راجعون منقلبون كما يتمنون؟ أم صابرون محتسبون عابدون راكعون ساجدون لربنا حامدون؟ فمن كان يعبد الله على حرف وانقلب وارتد فليسمع قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [الحج: 11].
ومن عرف الطريق إلى الله وسعى لها سعيها وهو مؤمن، تنبه للفتنة وأخذ منها حذره وصبر على الأسى حتى يلقى وجه ربه وهو عنه راضٍ أو يأتي الله بأمره عذاباً على الكافرين و نصراً للمؤمنين، نعم، قال الحكيم: {إنا لله وإنا إليه راجعون}.
عما قريب نصل، ولعلنا وصلنا إلى الوقت الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام: ” …، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، يَبِيعُ قَوْمٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ، الْمُتَمَسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ”.(أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة).
يقول الله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) } [آل عمران]. ومن يعِش يرى.