محمد فرشوخ
العدد السابع عشر – ربيع 2011
قدّم الحكيم لجلسته فجر الأحد، بتلاوة من الآية 35 حتى الآية 40 من سورة آل عمران. وأخذ يفسر: يدخل زكريا النبي والرسول على مريم الفتاة الصدّيقة، عليهما السلام، في المحراب، ويستفسر منها: من أين لك بفاكهة الصيف ونحن في الشتاء؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}. ما أيقظ في روعه أن هذا المكان صار مباركاً مقدساً لكثرة ما تعبدت مريم وذكرت الله فيه. وأن الدعاء عنده لا بد أن يكون مجابا. فقال تعالى:{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ…}.
إستهل الحكيم بالتنبيه أن كلمة “هنالك” في الآية ليست زائدة، ثم تساءل : ماذا ينبغي على أحدنا أن يفعل حين يشعر بالضيق؟ حين تصيبه كآبة؟ أو حين يشعر بانسداد الآفاق في وجهه؟ أو حين تشتد حاجته لشيء لا يقضيه إلا الله؟ هل يخرج من بيته مغاضباً ؟ أو يذهب إلى مكان للتسلية في معصية؟ أو يهيم على وجهه بغير هدىً؟ أو يغلق الباب على نفسه فتأكله الهواجس؟
“هنالك” أماكن مقدسة مباركة من أتاها وابتهل فيها إلى الله قضيت حاجته وذهب عنه ضيقه وفرج الله عن كربته. وهنالك أماكن أخرى يعصى الله فيها، من أتاها زادت غفلته، وقويت كربته، واشتد سخط الله عليه.
“هنالك” عباد مباركون رضي الله عليهم، إذا رؤوا ذكر الله لرؤيتهم، وببركة صحبتهم بارك الله في رفقتهم، ووسع عليهم معيشتهم ودلهم على طريق سعادتهم. كما أن “هنالك” أناس سخط الله عليهم لإقدامهم على ظلم أنفسهم وظلم غيرهم، ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي وظلموا الناس باستعبادهم واغتصاب حقوقهم. فنال من وقف إلى جانبهم قسطاً من غضب الله وسخطه.
“هنالك” أزمنة ومواقيت ومناسبات تباركت حين حلّت، ثم تبارك ذكرها كلما تذكرها الذاكرون، وعندها تقضى الحوائج وتنفرج الكربات. كما أن “هنالك” مواقيت أخرى للظلم اشتد فيه غضب الله وكلما ذكرت تبجحاً وتفاخراً عاد الغضب وعاد السخط على من ارتكبها وعلى من يستذكرها.
فعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حضر معصية فكرهها فكأنما غاب عنها ومن غاب عنها فأحبها فكأنه حضرها.
وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة. والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن مُحَسّر) سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حُسِر فيه أي أعيَ وكلّ، وكأن اللعنات لا تزال تنزل فيه من يوم أن وطئه أبرهة، الطاغية الذي أراد هدم الكعبة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة) حين نام النبي والمسلمون عن صلاة الفجر.
كما نهى أن يحضر الناس المكان الذي تنفذ فيه أحكام الإعدام، فقال:-ح: “إذا رأيتم الرجل يقتل صبرا؛ فلا تحضروا مكانه، فلعله يقتل ظلما فتنزل السخطة فتصيبكم”.
و”هنالك” مواطن يكرهها الله ورسوله ويكره مرتاديها، يقول الله تعالى في سورة النساء: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا، الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم…(الآيتان 140-141).
وحكم بموجب هذه الآيات في مجالس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة منهم أحمد بن حنبل والأوزاعي وابن المبارك فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع قالوا: ينهي عن مجالستهم، فإن انتهى وإلا ألحق بهم، يعنون في الحكم. وقد حمل عمر بن عبدالعزيز الحد على مجالس شربة الخمر، وتلا “إنكم إذا مثلهم”.أي إن الرضا بالمعصية معصية؛ ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم.
وفي ذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ. مصداقاً لقول الله تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة..
من الأماكن المباركة “هنالك” المسجد الحرام وفي الحديث: ” إن الله تعالى ينزل على أهل هذا المسجد، مسجد مكة، في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة: ستين للطائفين، وأربعين للمصلين، وعشرين للناظرين”.
و”هنالك” المسجد النبوي الشريف أيضاً وفي الحديث:”ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة”.
“هنالك” مجالس مباركة، كل من حضرها بورك فيه وغفر له، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال “إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة. فضلا. يتبعون مجالس الذكر. فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم. وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم. حتى يملؤا ما بينهم وبين السماء الدنيا. فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء. قال فيسألهم الله عز وجل، وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك. قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا. أي رب! قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك. قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك. يا رب! قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك. قال فيقول: قد غفرت لهم. فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا. قال فيقولون: رب! فيهم فلان. عبد خطّاء. إنما مر فجلس معهم. قال فيقول: وله غفرت. هم القوم لا يشقى بهم جليسهم”.
“هنالك” مخلوقات غير البشر من حيوان وماء ونبات، بعضها مبارك وبعضها ملعون، فعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللّهَ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَامْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَىَ نَاقَةٍ. فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا. فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهَ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا. فَإِنّهَا مَلْعُونَةٌ”. وفي رواية: [فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: “لاَ تُصَاحِبُنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ”].
وماء زمزم ماء مباركة، وفي الحديث الشريف: ” آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم “.
و”هنالك” كذلك مياه حلت عليها اللعنة ولم تزل، ففي الحديث الصحيح عن ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة (تبركاً).
“هنالك” مواقيت طيبة مباركة من وقف فيها بين يدي الله تائباً مخلصاً، غفر له وفي الحديث الشريف: “هذه ليلة النصف من شعبان إن الله عز وجل يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم”، رواه البيهقي.
من المواقيت الطيبة الثلث الأخير من الليل، وعند انتظار الصلاة، وبين الأذان والإقامة، وعند هطول المطر، وحيث يعبد الله ، وحيث يفعل الناس الخير، وفي الحديث:” إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا له لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا “.
وحين تستعاد قصص الأنبياء والصالحين تتنزل الرحمات، وتقشعر الأبدان وتدمع العيون وتترطب القلوب.
“هنالك” مشاهد مباركة تذكر، من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً، وكأنك كنت معه، تعيش الحالة بمقدار حبك له: محمد الرضيع اليتيم، ومحمد الفتى المتفكر في الصحراء يرعى الغنم، ومحمد الشاب الصادق الأمين ، ومحمد المضطهد المطارد يناجي ربه والدماء تسيل من قدميه: “اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس..”، ومحمد المهاجر في الصحاري إلى المدينة عطشاً جائعاً تعباً:{إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} ، ومحمد الذي تستقبله الزغاريد عندما وصل إلى المدينة، ومحمد الذي يقضي ليلة غزوة بدر ساجداً مبتهلاً وأبو بكر يخفف عنه ويمنّيه، ومحمد الذي يبكي أصحابه شهداء أحد، ومحمد على رأس الكتيبة الخضراء يدخل مكة فاتحاً، ومحمد يعالج سكرات الموت ويلح ويوصي بالصلاة.
فمن قرأ واستحضر مشهداً من التاريخ المجيد وشعر كأنه دخل فيه كان كأنه واحد من أهله. إن خيراً فخير، وإن سوءاً فسوء. فمن أحب قوماً حشر معهم، صالحين كانوا أو عاصين.
قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}.كونوا جسداً بالصحبة وروحاً بالحب والإيمان، كونوا تذكراً إذا غابوا، وحافظوا على ما عاهدتم عليه، و”المرء مع من أحب”.
“هنالك”، بركات من آثارٍ شريفة بها يتبارك الصالحون ويتفاءلون ، ولنتذكر قصة القلق الذي ساور سيدنا خالد بن الوليد قبيل المعركة لأنه فقد عِمّة له، وقد خاط فيها شعيرات من أثر الرسول صلى الله عليه وسلم.
و”هنالك”، كان أبو أيوب الأنصاري وزوجته إذا أنتهى النبي من طعامه يتيممان موضع أصابعه من الطعام في القصعة يريدون البركة.
وقبض السامري المنافق قبضة من التراب المبارك الذي خطا عليه الملك جبريل، وبه استعان ليفتن بعض قوم موسى من بني إسرائيل، واقرأوا قوله تعالى في سورة طه: قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ {95} قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي {96}.
ختم الحكيم جلسته قائلاً: فانتبه يا أخي من “هنالك” ، فشتان بين “هنالك” و”هنالك”. “هنالك” قد تعني المكان، و”هنالك” قد تعني الزمان، و”هنالك” قد تعني الإنسان . “هنالك” توصل إلى الرحمن و”هنالك” تؤدي إلى المهالك. فأي “هنالك” يخطر ببالك؟
ثم دعا وأمّن الحاضرون: (اللهم يا مؤنس كل وحيد ويا صاحب كل فريد ويا قريباً غير بعيد ويا غالباً غير مغلوب، يا ذا الجلال والإكرام: أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك، نسألك السلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة والنجاة من النار، إنك أنت العزيز الغفار).