محمد فرشوخ
العدد الثاني والثلاثون – شتاء 2015
قرأ علينا الحكيم ذات صباح من سورة الأنعام: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}.
ثم قال موضحاً: ما من عاقل إلا ويبحث عن المغزى من مولده وحياته ومماته ثم عن مصيره بعد ذلك أيفنى في التراب كالأنعام أم أن له حياة ثانية؟ وما من مثقف إلا وهو يقرأ في الكتب الجليلة قديمها وحديثها عن أمر جليلٍ يشبع نهمه ويرضي شغفه، وما من مفكر إلا ويغرق في التنقيب بين أفكار الفلاسفة وأخبار الأنبياء وسير العظماء عن سر هذا الكون وعن طريقة الوصول إلى الحقيقة بعيداً عن المبالغة والدجل والتزييف.
أصحاب النفوس الجيّاشة لا تخدعهم المظاهر البهية ولا ترسانات الأسلحة ولا جحافل الجيوش ولا الأبنية الشاهقة ولا الصروح المذهبة المزخرفة.
لا نتكلم هنا عن النفوس البهيمية لبعض بني آدم ولكن عن الذين تجاوزوا مشاغل الطعام والشراب والنكاح وسرّحوا النظر في أبعد من ذلك.
أصحاب الأرواح العليّة والنفوس الأبيّة، الذين يرفضون الجهل والأساطير، يبحثون عن الحقيقة البسيطة الخطيرة: لم نخلق عبثاً ولا بد من غاية لأجلها خلقنا ولا بد من ضوء ينير سبيل الحائرين.
وإذ يتناهى إلى أسماعنا وأبصارنا كلامٌ فوق الكلام وحكمةٌ ليس فوقها حكمة: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) } [سورة المؤمنون].
هنا يتوزع الناس أفواجا، بعضنا تكفيه الإشارة فيتتبعها ليتكشف الحقائق واحدة بعد الأخرى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً …} [سورة البقرة: 30]، ليعلم أن له دور عظيم ووظيفة سامية، ثم يجد راحة نفسه في الحكمة التالية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [سورة الزلزلة]. فيوقن أن العدل قائم وأن كل نفس بما كسبت رهينة، وأننا سوف نقف بين يدي من لا يُظلَم عنده أحد، وأن أصحاب الحقوق سيستردونها أضعافا، فيودّون لو أنهم ظلِموا في الدنيا أكثر لما ينالوه في الآخرة من القرب والحظوة . ويتابع الانسان بشغف وحذر حتى يبلغ: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [سورة النجم: 42]، فيفهمها تقرباً إلى الله في الدنيا أو مواجهةً في الآخرة، فإما شاكراً وإما كفورا.
وأما البعض الآخر وهو الأغلبية فتمر هذه الإشارات تحت سمعه وبصره فلا يلقي لها بالا، إذا سمعها لم يُصغِ وإذا قرأها لم يتفكر ولم يتدبر. لهذا وصفهم المولى تعالى بالأنعام؟ لأن الأنعام تقاد إلى الذبح وهي تظن أنها تقاد إلى المراعي.
المراعي أيها الأحبة هي مغريات الحياة الدنيا التي لا تنتهي، والشغف بها ليس له حد إلا الموت، والانشغال بها غفلة عن الحقيقة الساطعة. وصدق من قال: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا).
يا أيها الأحبة، قال الحكيم مخاطباَ، إن الذي فرض علينا هذه الحياة ليس بظلّام بل ذو جلال وإكرام، أعطانا الروح لنستشعر بها خطاب السماء، ولتنشد أرواحنا نحو العلا والعليّ. وجعل القلب موضع نظره تعالى، فقد قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم”. وقال تعالى عن الفائزين يوم القيامة: { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]. ووهبنا جوهرة لا تقدر بثمن وهي العقل به ندرك الأمور والأشياء وبه نعرف غاية الخلق وطلب الخالق. وبه نميّز بين ما يصلح وما يفسد، وأكرمنا أيّما إكرام بأن جعل لنا الخيار والحريّة في سلوك حياتنا، ثم أغدق علينا بفضله أنه لم يقف على الحياد فدلّنا على طريق النجاة وحبب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا ولم يرض لعباده الكفر وكّرهه إلينا كما كرّه الفسوق والعصيان.
لخّص الحكيم فحوى الجلسة فقال: هذه الدنيا فيها ما يجرف وما يحرف: إذا انجرف الانسان في طلب الدنيا غرق في متاهاتها ونسي الغاية السامية من خلقه، وإذا انحرف بالأهواء والميول عن الصراط السويّ ضاع وأضاع. فهلّا من وقفة تفكر وتأمل وهل من عزلة عن الناس وعن الدنيا ولو لساعة ينظر فيها العبد ما قدمت يداه ويعيد حساباته ويصحح وجهته ويسددها؟
ختم الحكيم الجلسة بالدعاء: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا، اللهم دلّنا بك عليك، اللهم نوّر قلوبنا بنور معرفتك، اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، اللهم إنا نسألك حسن الختام ونعوذ بك يا مولانا من سوء الخاتمة).