د. صبحي رمضان فرج سعد*
الماء سابق في وجوده على جميع الخلائق، فقد أثبتت دراسات علوم الأرض أن هذا الكوكب يرجع عمره إلى أكثر من 46 بليون سنة مضت، بينما يرجع عمر أقدم أثر للحياة في صخور الأرض إلى 38 بليون سنة، وهذا يعني أن عملية إعداد الأرض لاستقبال الحياة استغرقت أكثر من ثمانمائة مليون سنة.
والدليل الشرعيّ الذي استند إليه العلماء في أن أصل العالم، هو الماء وهو أول المخلوقات، خبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق: “كلُّ شىء خلقَ من الماء”( رواه ابن حبان وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه). وفي لفظ ابن حبان: “إن اللهَ تعالى خلقَ كلّ شيء من الماء”، وفي لفظ “كل شيء خلق من الماء”.
وروى السديُّ بأسانيد متعددة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “إنَّ الله لم يخلق شيئًا مما خلقَ قبل الماء”، فيتبين بذلك أن الماءَ هو أصل جميع المخلوقات وهو أول الخلق، فمن الماء خلق اللهُ العالمَ قال تعالى”وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ” (الأنبياء 30). يقول ابن كثير في تفسيره” أي أصل كل الأحياء منه. (…)
وفي تفسير القرطبي “قوله تعالى “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ”، ثلاث تأويلات: أحدها، أنه خلق كل شيء من الماء؛ قاله قتادة. الثاني، حفظ حياة كل شيء بالماء. الثالث، وجعلنا من ماء الصلب كل شيء حي؛ قاله قطرب. وجعلنا بمعنى خلقنا. ..
وتتوزع المياه على سطح الأرض بواقع مساحة تشكل حوالي 71%- في مقابل 29% لليابسة- وتبلغ إجمالي إمدادات المياه في العالم حوالي 1386مليون كيلومتر مكعب (3325 ميل مكعب) من الماء، منها أكثر من 96%عبارة عن ماء مالح (محيطات- بحار- بحيرات مالحة)
وفيما يتعلق بالماء العذب، فإن منه ما يزيد على 96% محجوز بالأنهار والكتل الجليدية و30% موجود بالأرض أما مصادر الماء العذب المتمثلة في الأنهار والبحيرات فهي تشكل حوالي 93100 كيلومتر مكعب(22300ميل مكعب)، أي حوالي 1/150 من 1% من إجمالي الماء ويتباين التوزيع الجغرافي للماء على سطح الأرض، وتصف دورة المياه Water Cycle وجود وحركة المياه على الأرض وداخلها وفوقها وتتحرك مياه الأرض دائمًا، وتتغير أشكالها باستمرار، من سائل إلى بخار، ثم إلى جليد، ومرة أخرى إلى سائل ولقد ظلت دورة الماء تعمل مليارات السنين، وتعتمد عليها كل الكائنات الحية التي تعيش على الأرض، فمن دونها تصبح الأرض مكاناً طارداً تتعذر فيه الحياة.
دورة المياه في الطبيعة
وقال تعالى أيضاً “وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (النور 45). جاء في تفسير ابن كثير “يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات، على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد” وفي تفسير الجلالين { والله خلق كل دابة } أي حيوان { من ماءٍ } نطفة. وفي تفسير الطبري “وَقَوْله { خَلَقَ كُلّ دَابَّة مِنْ مَاء } يَعْنِي مِنْ نُطْفَة “. وفي تفسير القرطبي “الدابة كل ما دب على وجه الأرض من الحيوان؛ يقال: دب يدب فهو داب؛ والهاء للمبالغة. وقال جمهور النظرة: أراد أن خلقة كل حيوان فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين؛ وعلى هذا يتخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الذي سأله في غزاة بدر: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء). الحديث.
وقال قوم: لا يستثني الجن والملائكة، بل كل حيوان خلق من الماء؛ وخلق النار من الماء، وخلق الريح من الماء؛ إذ أول ما خلق الله تعالى من العالم الماء، ثم خلق منه كل شيء”. وفي خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي وكل شيء يضخم قابل لأنْ يُصغَّر، وقد يُضخَّم تضخيماً لدرجة أنك لا تستطيع أن تدرك كُنْهه، وقد يَصْغُر تصغيراً حتى لا تكاد تراه، وتحتاج في رؤيته إلى مُكبِّر، ومن عجائب الخَلْق أن النملة أو الناموسة فيها كل أجهزة الحياة ومُقوِّماتها، وفيها حياة كحياة الفيل الضخم، ومن عظمة الخالق سبحانه أن يخلق الشيء الضخم الذي يفوق الإدراك لضخامته، ويخلق الشيء الضئيل الذي يفوق الإدراك لضآلته. ولما كان الماء هو الأصل في خِلْقة كل شيء حيٍّ وجدنا العلماء يقتلون حتى الميكروب الصغير الدقيق بأنْ يحجبوا عنه المائية فيموت، ومن ذلك مداواة الجروح بالعسل؛ لأنه يمتص المائية أو يحجبها، فلا يجد الميكروب وسطاً مائياً يعيش فيه.
والماء من أهم العناصر لحياة الإنسان على الإطلاق، وهو يكون ثلثي وزن الجسم وبدونه لا تستمر الحياة طويلاً ، حيث يمثل حوالي 60% من الجسم في المتوسط، يتراوح في جسم الرجل بين 55-65%، وفي جسم المرأة بين 50-55%. ويرجع محتوى الماء المرتفع في جسم الرجل مقارنة بالمرأة إلى الكتلة العضلية الكبيرة التي يتميز بها جسم الرجل هذا بالإضافة إلى النسبة المئوية لوزن الجسم والتي تتباين أيضًا مع العمر. فنسبة الماء في الأطفال حديثي الولادة New-born infants تبلغ حوالي 75% من وزن الجسم، وتنخفض هذه النسبة إلى النسبة الطبيعية “حوالي 60%” بعد سنة من العمر.
ويقوم الماء بوظائف عديدة مهمة وحيوية للمحافظة على استمرار الحياة، وتتلخص فيما يلي:
1- يعتبر الماء هو الوسط الذي يذوب فيه وتنتقل بواسطته جميع عناصر الغذاء من عضو لآخر حيث تؤدي وظائفها.
2 – يسهل عمليات الهضم والامتصاص والإخراج.
3 – يحافظ على مستوى الضغط الإسموزي بداخل وخارج الخلايا عند الحد الطبيعي ويقوم بعملية التوازن داخل الجسم ( التوازن الالكتروني ).
4 – يقوم بدور هام في المحافظة على ثبوت درجة حرارة الجسم عند حدها الطبيعي، ففي الأجواء الحارة وعند شعور الشخص بارتفاع درجة الحرارة لإصابته بحمى مثلاً يحدث عملية التعرق التي ترطب الجلد وتوازن درجة حرارته وتؤدي إلى انخفاضها.
5 – يحمل الماء المواد الضارة أو السامة للجسم والناتجة عن التمثيل الغذائي عن طريق الكليتين ليتخلص منها على هيئة بول مثل البولينا والحامض البولي وغيرها.
6 – يقوم الماء بدور الملين للمواد الغذائية فيسهل عملية مضغها لوجوده باللعاب وبالتالي بلعها وهضمها.
7 – بواسطة الماء داخل القناة الهضمية تسهل عملية الإخراج وتخلص الجسم من الفضلات.
8 – يعتبر الماء عنصراً هاماً في عملية بناء الخلايا ويساعد على سرعة التئام الأنسجة عند إصابتها بالجروح أو الأمراض. و يوجد الماء في الجسم على شكلين أحدهما خارج الأنسجة ويمثل الجزء الأكبر، والآخر داخل الأنسجة، والماء خارج الأنسجة يمثل السوائل الموجودة بالدم واللمف وسائل النخاع الشوكي والافرازات الأخرى مثل الإفرازات المعدية، والصفراء والبنكرياس وغيرها. أما الماء داخل الأنسجة فيمثل السوائل المحيطة بالخلايا في المساقات البينية والسوائل المكونة للبروتوبلازم داخل الخلايا نفسها ويلاحظ بوضوح جلي الاختلافات في كمية الماء التي توجد في مختلف الأعضاء والأنسجة الحيوانية والنباتية. فعلى سبيل المثال، يوجد الماء بنسبة 88-99% في السوائل الحيوية مثل عصير الأشجار والعصير المِعدي للإنسان والحيوان وبلازما الدم والسائل الليمفاوي الخ، بينما تقدر كميته في أنسجة وأعضاء أخرى بحوالي 20-24%، كما في النسيج العظمي للإنسان والحيوان والأعضاء الخشبية في النباتات. وكقاعدة عامة، تكون كمية المياه بنسبة أكبر في الكائنات والأعضاء حديثة السن مقارنة بالأخرى المسنة، وأوضح مثال على ذلك، الانخفاض التدريجي لنسبة الماء في جسم الإنسان والحيوان بتقدم السن، والتي يصاحبها ظهور التجاعيد المميزة على الجلد. وعلى غرار ذلك، يحدث انخفاض تدريجي في كمية الماء في النباتات مع تقدم نموه. ويبدو أنه توجد علاقة وثيقة بين كمية الماء الموجودة في الخلايا ومعدل النشاط الحيوي والفسيولوجي لتلك الخلايا، فزيادة النشاط الحيوي للخلية يرافقة زيادة في كمية الماء، حيث تتراوح نسبته في الخلايا النشيطة الانقسام بين 80-90%. ولقد أودع الله في الماء قوة تسمى قوة التوتر السطحي، لولا هذه القوة لم تتماسك قطرة الماء، ولم يستطع الماء أن يتبخر ولن ينزل المطر ولن توجد الحياة أصلاً. والعجيب أن العلماء عندما أحصوا عدد الجزيئات في قطرة ماء واحدة وجدوا في كل قطرة صغيرة هنالك خمسة آلاف مليون جزيء ماء!!
كشفت شركة ” نيكون ” في المسابقة التي تقيمها كل عام للتصوير الميكروسكوبي (Nikon Small World Photomicrography) – الدورة السابعة والثلاثون-عن مجموعة من الصور التي تكشف لنا أن العالم الصغير يعتبر متحفًا لجمال وروعة وتعقيد الحياة:
وكل شيء إنما خلقه الله بقدر وسيّره بحكمة، وهى حقيقة قررتها شريعة الإسلام بوضوح لا لبس فيه، يقول تعالى “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” (القمر49)، ويقول “قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا”(الطلاق3) “وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا”(الفرقان2). قال سيد قطب في تفسيره (في ظلال القرآن) “قدر حجمه وشكله، وقدر وظيفته وعمله، وقدر زمانه ومكانه، وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير”.
لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداك ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك والكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيرًا لها أعياك.
_________________________
* مدرس بكلية الآداب- جامعة المنوفية – جمهورية مصر العربية. للراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.quran-m.com
المراجع:
عادل سيد عفيفي، الاتزان البيئي داخل الكائن الحي، السلسلة العلمية للتقنيات البيئية، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2002م.
http//wwwangelfirecom/biz/kha98/helth/waterhtm
http//gawaterusgsgov/edu/watercyclearabichtml
http//wwwkaheel7com
http//wwwibda3worldcom