أ.د. جورج ضاهر*
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آلهم وصحبهم أجمعين، وبعد،
كثر الكلام عن ماهية الساعة البيولوجية واختلفت الآراء بشأنها، فأردت، بتوفيق الله، أن أوضح هذا الأمر من وجهة نظر علم الطاقة، والطب التقليدي وغير التقليدي، لنبيّن بعض عجائب صنع الله في الإنسان ورحمته بخلقه، وكيف أن القرآن الكريم وأحاديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تناولت هذا الامر بما فيه منافع للخلق، عامة، ولمن أراد أن يتخذ إلى ربّه سبيلاً، خاصة.
ماهيتها
هي ساعة داخلية فطرية تسير ذاتيًا بماء الحياة أو الطاقة الحيوية (أو بما يسمّى بـ النفس الغازية)، لكنها تخضع لمؤثرات خارجية كثيرة، في مقدمها تأثير الجهاز العصبي والجهاز الهورموني اللذين يشتركان في التحكم بأنماطها السلوكية الإيقاعية. وقد أثبتت الأبحاث التي أجراها العلماء أن السلوك الإيقاعي يستمر في الحدوث حتى في غياب المؤثرات المرتبطة به، مما يدل على أن السلوك الإيقاعي يخضع لتحكم حوافظ زمنية، وهو ما بات يُعرف بالساعة البيولوجية.
تعمل الساعة البيولوجية عند البشر حسب جداول زمنية ضرورية للحياة وللصحة. وللبشر إيقاعات بيولوجية يومية، وأسبوعية، وشهرية، وسنوية. ويختلف مستوى الهورمون والكيميائيات الأخرى في الدم على مدى هذه الفترات الزمنية. وكثير من عمليات الجسم الحيوية تتم بانتظام كل 24 ساعة وتنسق أنشطة الخلايا والغدد والكليتين والكبد والجهاز العصبي فيما بينها وبعضها مع بعض، ووفق إيقاع النهار والليل [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ] (آل عمران، 190).
إن معرفتنا بكيفية عمل الساعة البيولوجية، تساعد الأطباء على تشخيص الأمراض، سيما المستعصية منها، وكيفية علاجها باتباع المواقيت البيولوجية المنسجمة مع النظام الذي وضعه الله تعالى في خلق هذا الكائن العجيب الذي هو الانسان، الذي جعله دون سائر المخلوقات خليفة له على أرضه.
حوافظ علاجية
نستطيع أن نشبه جسم الانسان بمركبة يتناوب على قيادتها 12 قناة [meridian]، في كل ساعتين تتولى إحدى القنوات قيادة العمل، فيما تعمل بقية القنوات كمساعدة أو مرافقة لها، ثم تخلد إلى الراحة لتتولى أخرى القيادة، وهكذا.
وتنقسم هذه القنوات إلى مجموعتين: ست منها إيجابية ( 3،6،7،10،11 ،2)، وست منها سلبية (1،4،5، 8، 9، 12). [ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زوجين لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون] (الذاريات، 49).
وعند التأمّل في هذه المسألة توصّلنا إلى نتيجة مذهلة: وهي أن كل الأعضاء المنتجة التي من دونها لا تستقيم حياة الجسد ولا استمراريته، هي الأعضاء السلبية ( بمعنى آخر: الأنثوية)، مثل الرئتين والبنكرياس والطحال، إلخ، فيما تقوم الأعضاء الإيجابية ( التي تمثّل الذكورة) مثل المعدة والمثانة والمرارة، بوظيفة الحماية !! وعلى سبيل المثال، لولا وجود المرارة لانفجر الكبد، ولولا المثانة لانفجرت الكليتان، ولولا غلاف القلب لتعطّل عمل القلب…[فتباركَ اللهُ أحسن الخالقين] (المؤمنون، 14).
تجتمع القنوات الإيجابية، وهي المسؤولة عن الإرادة، في نقطة واحدة أعلى سقف الحلق، ثم تنحدر في مسارها عبر العمود الفقري لتصل إلى المنطقة G أو الـ G.zone؛ أما القنوات السلبية، وهي المسؤولة عن القدرة، فتجتمع في أعلى نقطة من رأس اللسان، ثم تنحدر من الأمام لتلتقي مع القنوات الإيجابية في النقطة نفسها، أي المنطقة G . ولا سبيل لاجتماع هذه القنوات في الأعلى إلا عبر التصاق رأس اللسان بسقف الحلق، بمعنى آخر، اجتماع الإرادة والقدرة معًا، واجتماع كل مقدرات الجسد في وقت واحد، ليتحصّل الجسد على الفائدة العظمى من هذا الاجتماع، وهو التعافي من الأمراض المستعصية والمزمنة، التي غالباً ما يستعصي علاج الكثير منها لعدم اشتراك أعضاء الجسد كافة في مساعدة العضو المريض. يقول نبي الرحمة، صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر”.(صحيح مسلم )
وضمن هذا المفهوم، وفي الوقت الذي لا زالت الدعوة إلى ذكر الله، في بلادنا، تُهاجم، بل تواجه بالرفض، وتُطالَب بسوق الدلائل والبراهين على أهمية ذكر الله أو فوائده، التجأ الكثير من المراكز العلاجية في العديد من الدول الأوروبية والآسيوية، مثل ألمانيا وهولندا والهند، وغيرها، إلى استعمال لفظ اسم الجلالة الله، عند الفجر، وقبل الشروق، كعلاج أساسي للأمراض، الأمر الذي يكشف أحد الأسرار غير المتناهية للفظ اسم الرب في اللغة العربية، وهو ما نطلق عليه نحن اسم الجلالة الله، ويكمن في تعذر لفظ اسمه تعالى إلا بملامسة اللسان سقف الحلق؛ ولعلنا نجد في هذا، أيضاً، ما يفسّر سر الطريقة النقشبندية – إحدى الطرق الصوفية – في وضع اللسان عند سقف الحلق أثناء الذكر القلبي (تكرار ذكر اسم الجلالة الله في القلب). قال تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ](الأعراف، 205)؛ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا] (الأحزاب،41). والآيات التي تحض على الذكر في القرآن الكريم تفوق ثمانين موضعًا [ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير] (الملك، 14).
وفي السياق نفسه، نجد أن المسبب الرئيس للأمراض النفسية، على اختلاف أنواعها، هو شتات الفكر، وعند ذكر الله بوضعية لصق اللسان بسقف الحلق، تجتمع الأعضاء، كما ذكرنا، لتصبح كعضو واحد يساعد بعضها بعضًا، أما قوة التركيز الكامنة في العقل فتتمحور حول نقطة واحدة: التفكر في عظمة الله وآلائه، ما يمنعه من التشتت، فتتحد الطاقتان في مواجهة الأمراض الجسدية و/أو النفسية ويحدث التكامل في علاج المريض، الأمر الذي يضيق المجال لشرحه هنا.
عبرة لمن له قلب
وبالعودة إلى هذا النظام الذي وضعه العليم الخبير، نتامل كيف أن كل شيء قد خلِق بقدر، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يبدأ يوم الانسان في قيادة الرئتين، وتكون أكثر نشاطا من 3-5 فجرًا، أي في الوقت الذي تتضاعف كمية الأوزون في الهواء، الذي به تتقوّى مناعة الانسان وتقيه من الأمراض المستعصية وخصوصا السرطانية منها، وقد اقسم المولى تعالى بهذا الصبح الثمين فقال: { وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}، [سورة التكوير: 18]. ثم يتولى القيادة المصران الغليظ الذي يكون في أوج نشاطه من 5-7 صباحًا، ليساعد الإنسان على التخلص بسهولة من الفضلات المتراكمة عنده؛ ومعلوم مدى تأثر الحالة النفسية، بل والأخلاقية للبشر، بسبب الإصابة بالامساك المزمن، وكيف يُبتلى الانسان بالخمول وسوء الخُلق، نتيجة جهله بالوقت المناسب للتخلص من هذه الفضلات. ومن المستغربً ألاّ يُستفاد من هذا التوقيت الذي تتزامن ذروة نشاطه مع صلاة الفجر بالنسبة إلى المسلم ! وصلى الله على معلّم الناس الخير، حين قال : “الصُبحة تمنع الرزق”. (البيهقي) والصبحة هي النوم اول النهار، ونوم الصبحة يمنع الرزق؛ لأن ذلك، بحسب ما أورد العالم الاسلامي ابن القيم الجوزية: “وقت تَطلب فيه الخليقةُ أرزاقها، وهو وقت قسمة الأرزاق فنومه حرمان، إلا لعارض، أو ضرورة. وهو مضر جداً بالبدن؛ لإرخائه البدن، وإفساده للفضلات، التي ينبغي تحليلها بالرياضة، فيحدث تكسرًا وعِيًّا وضعفًا. وإن كان قبل التبرز والحركة والرياضة وإشغال المعدة بشيء، فذلك الداء العضال، المولد لأنواع من الأدواء”. (انتهى كلام ابن القيّم).
ولنا في رسول الله أسوة حسنة، إذ كان، فيما روي عنه، صلى الله عليه وسلم،”إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء”. ( الترمذي)
ونترك ما تبقى من عمل الأعضاء (القنوات) للتفكر والتأمل، لنتوقف، أخيراً، عند قناة القلب والشرايين. إن وقت استراحة القلب من الساعة 11-1 بعد منتصف الليل، وقد أظهرت إحصاءات سابقة للوفيات الناجمة من أمراض القلب أن أكثر النوبات القلبية وأشدها خطرًا على حياة الانسان، سيما السكتة القلبية، تحدث في الثلث الأخير من الليل، والقيام في هذا الوقت للتهجد، هو بمثابة منبه يمنع القلب من الغفلة، ومنشّط ينعش القلب ويحركه وكأنه يحيى في قلبه مرتين، وذلك لما في عمل القلب من منفعة عامة للجسد كله. ومن الملفت أن وقت النوم الطبيعي للبشر يتزامن مع وقت استراحة القلب، كأنما هو الملك، فإذا ما استراح تستريح الحاشية.
تأمل أيها الإنسان في هذا النظام الرباني كيف يسهل على الانسان معيشته؛ فالكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، وما قال فيه الأئمة، يبين أن الإنسان العابد الذاكر لله المنقاد للقوانين الإلهيه يحيا حياة سعيدة طيبة في بدنه وعقله وروحه، وكل مكونات وجوده، وأنّى للإنسان الغافل المُعرض عن شرع الله أن ينعم بمثل ذلك، وقد أنذره الله تعالى بقوله [ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا] (طه، 124). فللأول حياة وللثاني معيشة، وفي هذا عبرة كافية لمن يريد أن يعتبر [ونفسٍ وما سوّاها، فألْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قد أَفْلَحَ مَنْ زَكاها، وقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا] (الشمس، 7-10) صدق الله العظيم.
________________________________
* طبيب أخصائي أمراض داخلية وعضو باحث في لجان طبية دولية، وعضو في منتدى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة- لبنان.