د. محمد على البار*
قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (سورة البقرة 233)
لم تعرف البشرية إرضاع المواليد من بني الإنسان بألبان الحيوانات على نطاق واسع إلا في القرن العشرين.
وقد بدأت تلك الموجة في أثناء الحرب العالمية الأولى وذلك لانشغال كثير من الأمهات الأوروبيات في المجهود الحربي… ثم زاد الأمر ضراوة بخروج المرأة الأوروبية إلى ميدان العمل، واستمرت الزيادة باضطراد حتى بداية الحرب العالمية الثانية حينما قلّ إنتاج المصانع من الألبان المجففة بسبب الحرب، ثم عاد الأمر على أشد مما كان بعد انتهاء الحرب عام 1945 م .
واستمر الخط البياني للألبان المصنعة والدول الصناعية الأخرى يوالي صعوده طوال الخمسينات والستينات من القرن العشرين. ولكن منذ بداية السبعينات وإلى اليوم ازداد الوعي بأهمية الرضاعة نتيجة الأبحاث المتعددة التي أثبتت فوائد الرضاعة وأضرار الألبان المجففة على أطفال بني البشر. وبدأت الرضاعة تزداد يوماً بعد يوم في البلاد المتقدمة صناعياً رغم العوائق الكثيرة التي تقف أمام الرضاعة، وأهمها خروج المرأة إلى ميدان العمل، وعدم تفرغها للرضاعة، مما دعا المنظمات العالمية إلى زيادة إجازة فترة النفاس والرضاع إلى شهرين بدلاً من أسبوعين، وإلى تهيئة مكان قريب من مكان العمل تستطيع المرضع فيه أن تعود إلى طفلها كل ثلاث ساعات لترضعه ثم تعود إلى العمل.
وقد انتشر هذا النظام في الولايات المتحدة، ووجدت الشركات والدوائر الحكومية أن إيجاد مكان مناسب لحضانة الأطفال الرضع أثناء عمل الأم، والسماح للمرأة بإرضاع طفلها لا يعوق عملها، ولا يقلل من الإنتاج، بل ربما حسّن من أداء المرأة العاملة بعد أن تطمئن على طفلها وإرضاعه.
أما في الدول النامية (العالم الثالث) فإن الرضاعة كانت هي الأساس لإرضاع الأطفال وتغذيتهم، فإن لم تستطع الأم أن ترضع طفلها لأي سبب كان فإن المرضعات يقمن بهذا الواجب، إما بأجر أو تطوعاً … وإلى عهد قريب كان الطفل يرضع من أمه أو من إحدى قريباتها أو جاراتها … وربما يرضع الطفل من أكثر من واحدة … وكان هذا شائعاً جداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرضعته أمه آمنة بنت وهب، وأرضعته حليمة السعدية، كما أرضعته أيضاً ثويبة مولاة أبي لهب.
ومع موجة التغريب بدأت الرضاعة تنحسر في العالم الثالث. وعرفت شركات تصنيع الألبان المجففة أن مستقبلها هو في دول العالم الثالث ذي الكثافة السكانية العالية، والخصوبة المرتفعة، فكثفت من حملاتها الدعائية حتى أنها في بداية الثمانينات كانت تبيع ما قيمته ألفي مليون دولار كل عام لدول العالم الثالث الفقير. وقد لعبت هذه الشركات دوراً هاماً في انحسار الرضاعة في العالم الثالث، بالإضافة إلى تغيير نمط الحياة وخروج المرأة إلى ميدان العمل. وقد أوضحت الأبحاث الكثيرة أن الأمهات أهملن الرضاعة ولجأن إلى القارورة والألبان المجففة مع ازدياد التعليم، والهجرة إلى المدينة، ودخول ميدان العمل. (…)
أهمية الرضاعة وفوائدها:
تذكر منظمة الصحة العالمية أن عشرة ملايين طفل يتوفون سنوياً في العالم الثالث نتيجة أمراض الجهاز الهضمي والإسهال، واغلب هذه الوفيات ناتجة عن تغذية الأطفال بالألبان المصنعة بواسطة القارورة حيث لا يتم التعقيم كما ينبغي، وتكون الكمية من اللبن مخففة بالماء وتسبب إصابة أكثر من تسعة ملايين طفل بنقص شديد في التغذية مما يؤدي إلى إصابتهم بالعديد من الأمراض والوفيات المبكرة ولذا ترى المنظمة الصحية العالمية التي تعنى بشؤون الأطفال وصحتهم مثل اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية أن إرضاع المواليد من أمهاتهم لمدة عامين قد ينقذ أكثر من عشرة ملايين طفل يتوفون سنوياً بسبب الإسهال وسوء التغذية و أمراض أخرى كثيرة.(…)
ويعتبر اللبا، (وهو اللبن الذي يفرز بعد الولادة مباشرة ويستمر لبضعة أيام) مهماً جداً لحياة الطفل ومناعته ضد الأمراض. ولم أر أحداً من القدماء تنبه إلى أهمية اللبا سوى الشافعية حيث أوجبوا على الأم إرضاع المولود اللبا لأنه لا يعيش بدونه غالباً، وغيرها لا يغني وهي نظرة عجيبة جداً حيث إن جميع الأطباء القدامى مثل ابن سينا والرازي وابن الجزار والقيرواني والبلدي… الخ كلهم يصرون على أن اللبا غير مفيد للطفل وأن على الوالدة أن لا ترضع طفلها بعد الولادة مباشرة وإنما تبدأ ذلك في اليوم الثالث أو ما حوله.
والغريب جداً أن هذه النظرة الغريبة كانت منتشرة في الطب الحديث، وفي المستشفيات حيث يبعد الطفل المولود عن أمه لمدة 24 ساعة أو 48 ساعة قبل أن ترضعه … واستمر هذا الإجراء الخاطئ بل الشديد الخطأ إلى السبعينات من هذا القرن في أوروبا وإلى الثمانينات من القرن العشرين في معظم دول العالم الثالث … وربما في بعض المستشفيات إلى اليوم!! ويمتاز اللبا بكثافته وبغناه بالبروتينات وبالذات الجلوبيولينات المناعية التي لها خاصية مدافعة الأمراض ومقاومتها، و أكثرها وجوداً الجلوبيولين المناعي من نوع (أ) الافزازي وهو بروتين مهم لمقاومة مختلف أنواع البكتريا وبعض أنواع الفيروسات مثل فيروس شلل الأطفال وفيروس الحصبة وفيروس النكاف وفيروس التهاب الدماغ الياباني. ومن ميزات اللبا أنه يحتوي على فيتامين ( أ) وتركيز الكلور والصوديوم. وله قدرة عجيبة على تليين أمعاء الطفل وبالتالي إفراز مادة العقي التي لو بقيت في الأمعاء لأضرت بالطفل وسببت انسداداً في أمعائه. ويحتوي اللبا أيضاً على العديد من الخلايا البيضاء واللمفاوية للأمراض، كما يحتوي على أكثر من مائة أنزيم وعلى معادن مختلفة وخاصة عنصر الزنك بالإضافة إلى العديد من الفيتامينات.
ويمكننا أن نوجز فوائد الرضاعة فيما يلي :
بالنسبة إلى الرضيع :
1- انخفاض حدوث الالتهابات الميكروبية لأن لبن الأم معقم جاهز بينما ألبان القارورة تحتوي على العديد من الميكروبات وخاصة في العالم الثالث. ويمكن إنقاذ ملايين الأطفال الذين يتوفون سنوياً بمجرد الرضاعة.
2- يحتوي لبن الأم على مضادات الأجسام والبروتينات المناعية ومجموعة كبيرة من خلايا الدم البيضاء المقاومة للأمراض بالإضافة إلى أكثر من مائة أنزيم.
3- يحتوي لبن الأم على عامل مهم ينمي نوعاً من البكتريا المفيدة التي تستوطن الأمعاء والتي تقوم بوقاية الطفل من كثير من أمراض الجهاز الهضمي. وتدعى هذه البكتريا العصية اللبنية المشقوقة.
4- يحتوي لبن الأم على مادة الانترفيرون الهامة والتي تقاوم الفيروسات.
5- يحتوي لبن الأم على مواد مضادة للسموم وبالذات سموم بكتريا (ضمات) الكوليرا.
6- لا يسبب لبن الأم أي حساسية للطفل بينما تبلغ نسبة أمراض الحساسية في الألبان المجففة %30 من الأطفال الذين يتناولونها.
7- لبن الأم فقير في الحامض الاميني فينايل الانين ، وبالتالي فإن الأطفال الذين يعانون من مرض وراثي يسمى بيلة فينايل كيتون يستطيعون أن يرضعوا من أمهاتهم دون حدوث مضاعفات خطيرة ويمنعون منعاً باتاً من الألبان المجففة المصنعة لاحتوائها على كميات كبيرة من الحامض الأميني فينايل الآنين .. ولا بد من تصنيع أغذية لا يوجد بها هذا الحامض الأميني.
8- لبن الأم غني بالزنك …ولذا فإن الأطفال الذين يعانون من مرض وراثي خطير لا تظهر عليهم أي أعراض طالما كانوا يرضعون من أمهاتهم أو من مرضعات بشريات، ولا بد أن تستمر الرضاعة في هذه الحالة حولين كاملين. أما إذا اعتمد الطفل على الألبان الأبقار فإنه يصاب بالمرض بصورة خطيرة جداً وغالباً ما يتوفى دون الحولين.
9- وفاة المهد تكثر نسبياً لدى الأطفال الذين يتغذون بالقارورة والألبان المصنعة، بينما هي نادرة جداً لدى الأطفال الذين على الألبان المصنعة.
10- لا يعاني الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم من الإمساك أو الإسهال إلا نادراً جداً بالمقارنة مع من يتغذون على الألبان المصنعة.
11- الرضاعة تساعد على تكوين الأسنان وجعل الفك سليماً دون اعوجاج بينما التقام القارورة يؤدي إلى اعوجاج وسوء نمو الأسنان مما يجعلها تحتاج إلى عمليات تقويم فيما بعد.
12- الرضاعة تحمي من مجموعة خطيرة من الأمراض منها البول السكري الذي يصيب الأطفال (النوع الأول)، وتصلب الشرايين، وبعض أنواع السرطان، والسمنة. وتخفف من وقع أمراض وراثية كثيرة وخطيرة مثل التليف الكيسي، وبيلة فينايل كيتون، ومرض نقص الزنك الوراثي، ومرض سيلياك (المرض الجوفي)الذي يصيب الجهاز الهضمي … وكل هذه الأمراض تحدث بصورة أخف لدى من يرضعون من أمهاتهم بالمقارنة مع من يلتقمون القارورة.
13- لا يحدث الكساح لدى من يرضعون بينما يحدث الكساح بنسبة غير قليلة لدى الأطفال الذين يتغذون على ألبان الأبقار المجففة. وذلك لأن لبن الأم (أو المرضع) يحتوي على كمية ذائبة من فيتامين(د) يسهل امتصاصها، بينما يفقد لبن الأبقار جزءاً مما يحويه من الفيتامينات.
14- الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم يمتصون الحديد بصورة أفضل من أولئك الذين يتغذون بـألبان الأبقار. وذلك لوجود مادة لاكتوفرين في لبن المرضع وهي مادة تساعد على امتصاص الحديد. كما أن في لبن الأم مادة بروتينية أخرى تتحد بالحديد وأجزاء من الخلايا بحيث لا يترك الحديد حراً في الأمعاء. وقد وجد أن الحديد الحر مهم لنمو بعض البكتريا العدوانية. وبالتالي فإن حرمان هذه البكتريا من الحديد يؤدي إلى إضعافها وسهولة القضاء عليها.
15- تؤدي التغذية بالألبان المجففة للمواليد إلى زيادة في عدد من الهرمونات في جسم الطفل مثل الأنسولين والموتولين والنيوروتنسين. وهذه كلها لها علاقة بأمراض الاستقلاب التي تكثر عند من يغذون بألبان الأبقار وتندر فيمن يرضعون.
16- يحتوي لبن الأم على أحماض دهنية غير مشبعة وحيدة ومتعددة وهي أحماض دهنية هامة لبناء الجهاز العصبي بينما يحتوي لبن الأبقار على أحماض دهنية مشبعة لها علاقة فيما بعد بتصلب الشرايين والسمنة. كما توجد في لبن الأم خمائر خاصة تساعد على تحلل الدهون وسهولة امتصاص الكالسيوم.
17- يحتوي لبن الأم على المعادن المطلوبة بكميات متناسبة متناسقة يسهل امتصاصها أما لبن الأبقار فيحتوي على كميات أكبر غير ذات فائدة، بل تسبب إرهاقاً لكلية الطفل من أجل طردها. ولهذا فإن الأطفال الذين يتغذون على ألبان الأبقار المجففة أكثر عرضة للإصابة بأمراض الكلى من الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم(أو المرضعات).
18- الفوائد النفسية العديدة للطفل الذي يشعر بدفء الأمومة عند التقامه الثدي.
وقد أوضحت العديد من الدراسات أن الأطفال الذين لا يرضعون وإنما يلتقمون القارورة يكونون أكثر عرضة للاضطرابات النفسية والسلوكية. وأن نسبة الجنوح والانحراف النفسي والسلوكي وتعاطي المخدرات وجرائم القصر والشباب مرتبطة إلى حد ما بعدم الرضاعة والاكتفاء بالتغذية بالألبان المجففة.
أما أهم فوائد الرضاعة للأم والمجتمع فهي كالتالي:
1- لبن الأم جاهز ومعقم ولا يحتاج إلى تحضير ومعاناة.
2- تنبه عملية الرضاعة أثناء مص الثدي الغدة النخامية الخلفية للأم كي تفرز هرمون الأوكسيتوسن. وهو هرمون مهم جداً لإعادة الرحم المتضخم بعد الولادة إلى حجمه ووضعه الطبيعي. وبالتالي يمنع النزف الشديد أثناء النفاس كما أنه يقي الأم من حمى النفاس الخطيرة.
3- تستفيد المرضع بعودة جسمها كله إلى وضعه الطبيعي قبل الحمل، وبالتالي تساعد الرضاعة على الرشاقة والحفاظ على الصحة.
4- أثبتت كثير من الأبحاث أن الرضاعة تلعب دوراً وقائياً للحماية من سرطان الثدي وسرطان الرحم.
5- تقي الرضاعة الأم من الجلطات التي قد تحدث أثناء فترة النفاس.
6- الرضاعة التامة خلال الأشهر الستة الأولى تعتبر من أهم وأفضل وسائل منع الحمل.
7- توفر الرضاعة من الأم ثمن الألبان المجففة وهي تبلغ آلاف الملايين من الدولارات سنوياً. ففي بداية الثمانينات من هذا القرن كانت الدول النامية (العالم الثالث) تستورد ما قيمته ألفي مليون دولار سنوياً من الألبان المجففة.
8- توفر الرضاعة آلاف الملايين من الدولارات سنوياً التي تنفق على مداواة الأمراض الخطيرة والوبيلة الناتجة عن التغذية بالقارورة.
9- تنقذ الرضاعة حياة ملايين الأطفال الذين يتوفون، وخاصة في العالم الثالث بسبب عدم التعقيم والإسهال والانتانات المختلفة… وهذه لا يمكن أن تقدّر بثمن . إذ أن حياة طفل واحد أغلى من أموال الدنيا كلها.
10- تنقذ الرضاعة اليافعين والشباب من الانحرافات النفسية. وهذه لها مردود اجتماعي واقتصادي يقدّر بآلاف الملايين من الدولارات سنوياً.
11- تقلل الرضاعة من إصابة البالغين بأمراض عديدة خطيرة مثل تصلب الشرايين والبول السكري وسرطان الثدي وسرطان الرحم. وهذه لها مردود صحي بالغ ومردود اقتصادي يقدّر بآلاف الملايين من الدولارات سنوياً.
هذه لمحة سريعة عن فوائد الرضاعة فهلا عادت الوالدات لإرضاع أطفالهن كما أمرهن الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم صلوات ربي وسلامه عليه وكما يدعو إليه الطب الحديث.
__________________________________
* للراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.eajaz.org