إعداد انجوغو صمب*
تعريف الميسر: للميسر تعريفات متقاربة متكاملة كونها تصف اللعبة أو خطرها أو آثارها:
( الميسر هو القمار ) [1]. 2- ( الميسر هو الضرب بالقداح على الأموال والثمار)[2]. 3- ( كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر )[3]. 4- ( كل لعب فيه قمار من شرب أو صياح أو قيام فهو من الميسر)[4]. 5- ( هو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين من النرد والشطرنج، وكل مغالبة قولية أو فعلية بعوض )[5]. 6- ( هو كل ما لا يخلو اللاعب فيه من ربح أو خسارة )[6].
والميسر اختصاراً هو كما قال السعدي ( هو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين من النرد والشطرنج، وكل مغالبة قولية أو فعلية بعوض )[25] أو كما عرف الشيخ يوسف القرضاوي ( هو كل ما لا يخلوا اللاعب فيه من ربح أو خسارة ) أيا كان نوع ذلك الميسر أو آلته، إذ العبرة كما يقول الأصوليون بالحقائق والمعاني وليس بالألفاظ والمباني.
صورة لأحد آلات لعب الميسر الحديثة
الميسر في العصر الحديث:
في عصرنا الحديث تنوعت آلات الميسر وتعددت صنوفها حتى فاقت الحصر أو كاد، وقد تفاقمت مع تطور وسائل الإعلام والاتصال، فخاطر الناس وتغالبوا في المبارات الرياضية بين الفرق، وعبر الشبكة العالمية ( الإنترنت )، ورسائل الجوال القصيرة، والمسابقات في القنوات التلفزيونية والإذاعية، وربما سموها ألعابًا أو جوائز أو غيرها من الأسماء اللامعة، وهي لا تغير من حقيقتها شيئًا. فكل ذلك من الميسر والقمار المحرم شرعاً، إذ توفرت فيها كل أركان الميسر.
أركان الميسر:
ـ لاعبين: هما المشارك أو المشاركون في اللعبة أو المسابقة من جهة، والمنظم للعبة أو المسابقة من جهة أخرى وقد يكون شخصًا واحدًا أو شركة.
ـ ومن آلة الميسر: وهي المسابقة أو اللعبة مثل مباراة رياضية بين فريقين، أو سباق بين خيول، أو مصارعة بين رجلين، أو إرسال رسالة قصيرة من الهاتف الجوال إلى الرقم الفلاني تتضمن كلمة معينة ثم تتم القرعة بين المرسلين فمن خرج سهمه كان هو الفائز.
ـ ومن المال: الذي يياسر به الطرفان وهو ما يشتريه اللاعب من أوراق، أو تكلفة المكالمة الهاتفية من جهة اللاعب المتصل، أو تكلفة الرسالة القصيرة التي يرسلها، وما ينفقه الشخص أو الشركة المنظمة للعبة أو المسابقة من أموال يدفعها إلى شركات الاتصال أو وسائل الإعلام.
ـ ونتيجة اللعبة: التي لا بد أن تكون خسارة أو ربحا كنتيجة كل أنواع الميسر القديمة والحديثة، ومما يميز الميسر في عصرنا الحديث أن الخاسر دائمًا هو جهة واحدة وهي الأضعف وهو من يجمع دراهمه ودنانيره من الفقراء و المساكين ومن أصحاب الدخل المتوسط، ويخدعون بتخصيص نزر يسير مما جمع من أموالهم ليدفع إلى واحد أو إثنين منهم، فيصدقون بعقولهم العفنة أن ذلك فائز !!!، أما الشخص المنظم للعبة أو المسابقة فلن يخسر شيئًا بحال من الأحوال، إلا ما يخسره من دينه وذلك شر الخسائر قال تعالى { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين }.
حكم الميسر في الشريعة الإسلامية:
يريد الإسلام من المسلم أن يتبع سنن الله في اكتساب المال، وأن يطلب النتائج من مقدماتها، ويأتي البيوت من أبوابها، والقمار يجعل الإنسان يعتمد على الحظ والصدفة والأماني الفارغة، لا على العمل والجد واحترام الأسباب التي وضعها الله وأمر باتخاذها.
والإسلام يجعل لمال الإنسان حرمة فلا يجوز أخذه منه إلا عن طريقة مبادلة مشروعة، أو عن طيب نفس منه بهبة أو صدقة، أما ما أخذ بالقمار فهو من أكل المال بالباطل )[7].
وقد دل على حرمة الميسر نصوص من القرآن والسنة.
ومن الأدلة القاضية بتحريم الميسر من القرآن:
1- قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما }[8] وهذه الآية وإن لم تصرح بتحريم الخمر والميسر ففيها تمهيد للنهي عنها، بل إن بعض الصحابة قد أقلع عن الشرب بمجرد نزول هذه الآية، ويفهم من ذلك أنه لو كان من متعاطي الميسر فيتركه كما ترك الخمر، قال ابن كثير رحمه الله تعالى ( ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات ولم تكن مصرحة بل معرضة، ولهذا قال عمر لما قرئت عليهم اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا حتى نزل التصريح بتحريمه في سورة المائدة…)[9]. ومن القواعد الشرعية أن ما زادت مفسدته على مصلحته حرمت، ومفسدة الميسر لا شك أنها أكثر من مصلحته بنص القرآن الكريم.
2- قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون }[10].
ففي الآية الكريمة من صيغ التحريم وصف الميسر بأنه: { رجس من عمل الشيطان} مما يدل على تحريمه وأنه من الكبائر، والرجس وصف لكل الأعيان الخبيثة خبثًا معنويًا أو ماديًا قال تعالى عن المأكولات الخبيثة { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به }[11] وقال سبحانه عن الخبثاء من الناس { سيحلفون لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فاعرضوا عنهم إنهم رجس }[12] و سمى عذابه رجسًا فقال{ قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب }[13]، وكذلك الأمر باجتنابه في قوله تعالى {فاجتنبوه } واجتناب الشيء هو التباعد عنه بأن تكون في غير الجانب الذي هو فيه [14]، ومن اجتنب شيئا وابتعد منه لم يتعاطاه, ومن صيغ تحريم الميسر أيضًا الأمر بالانتهاء منه { فهل أنتم منتهون } قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله ( فهو أبلغ في الزجر من صيغة الأمر التي هي: انتهوا… )[15].
3- قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون }[16] قال السعدي رحمه الله ( ولا تأكلوا أموالكم أي أموال غيركم أضافه إليهم لأنه ينبغي على المسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويحترم ماله كما يحترم ماله، ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة… )[17] ثم ذكر نوعي أكل أموال الناس الحق والباطل فعلق على النوع الأخير بقوله ( فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع وأدلى من يريد أكلها (الأموال ) بالباطل بحجة غلبت حجة المحق وحكم له الحاكم بذلك فإن حكم الحاكم لا يبيح محرمًا و لا يحلل حراماً، إنما يحكم على نحو ما يسمع، و إلا فإن حقائق الأمور باقية فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ولا شبهة ولا استراحة… )[18].
قلت: وهذا في حالة ما لم يكن الحاكم هو الداعي إلى ما يتم بواسطته أكل أموال الناس بالباطل من صور الميسر المنظم، التي تسخر له جميع الإمكانيات الدستورية والإعلامية وغيرها حتى قد يخيل للعوام أنه أصبح من الجائز كسائر أنواع المعاوضات.
وأما الأدلة على تحريم الميسر من السنة فمنها ما يلي:
1- عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه )[19] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى ( قال العلماء النردشير هو النرد وشير معناه حلو، وهذا الحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم اللعب بالنرد وقال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا يكره ولا يحرم، وأما الشنطرنج فمذهبنا أنه مكروه وليس بحرام وهو مروي عن جماعة من التابعين، وقال مالك وأحمد حرام قال مالك هو شر من النرد وألهى عن الخير، وأصحابنا يمنعون القياس ويقولون هو دونه، ومعنى ( صبغ يده في لحم خنزير ودمه ) في حال أكله وهو تشبيه لتحريمه بتحريم أكلهما والله أعلم [20]، ولا شك أن موضع الخلاف بين الأئمة هو الآلات المختلفة من نرد أو شطرنج وغيرهما من الملهيات، وليس فيما يخالطه من المغالبة بمال ونحوه فإن ذلك محرم بنص القرآن ولم ينقل عن أحد من الأئمة القول بجوازه والله أعلم.
2- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ) [21]. وذكر الزرقاني من أسباب تحريمه وكونه معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن أول من وضعه هو سابور بن أردشير وفعله إتباع لسنة المجوس المنهي عن إتباعها [22].
3- ما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله حرم عليكم الخمر والميسر والكوبة )[23] والحديث تأكيد لما ورد في سورة البقرة وسورة المائدة من تحريم الميسر، والكوبة هي الطبل، وقيل هي النرد وقيل الشطرنج.[24]
أضرار الميسر الدينية والدنيوية:
ان التعرف على الحكم التشريعية فيما يأمر به الإسلام أو ينهى عنه لاسيما فيما يتعلق بأمور المعاملات لمما ينشط على الالتزام بشرع الله ويعين عن الانقياد له, ولذلك عودنا الشارع الحكيم الإشارة إلى بعض تلك الحكم، ومن ذلك ما نص الله عليه في القرآن الكريم وأشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة من مفاسد وأضرار الميسر في الدين والدنيا وعلى الفرد والمجتمع، وهذه جملة من تلك المفاسد والأضرار في مطلبين:
أضرار الميسر الدينية:
هناك مفاسد دينية كثيرة تترتب من تعاطي الميسر والقمار ومنها:
1- في الميسر إثم كبير: قال تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع و إثمهما أكبر من نفعهما}، وهذا يقتضي كونه حرامًا في الشريعة الإسلامية إذ الحرام هو ( المنهي عنه على الجزم، المثاب على تركه، والمعاقب على فعله، وهو مأخوذ من الحرمة وهي ما يحرم انتهاكه )[26]، وقد سقنا فيما مضي من الأدلة القاضية على تحريم الميسر من الكتاب والسنة ما يغني عن إعادته هنا.
فتعاطي الميسر إذن عمل يستحق فاعله عقاب الله تعالى ويعرضه لسخطه، وإثم الميسر أعظم بكثير مما قد يحصله من المال وعرض الدنيا الزائل لقوله تعالى { وإثمهما أكبر من نفعهما }، والله تعالى لم يجعل الحرام طريقًا للكسب ولا سببًا للسعادة في الدنيا، ولذلك رد على من ساوى بين البيع والربا فقال سبحانه { وأحل الله البيع وحرم الربا } [27]،بل إن تقوى الله تعالى وفعل أوامره واجتناب نواهيه هي سبب كل خير في الدنيا والآخرة قال تعالى { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين }[28] وقال تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب }[29] وقال تعالى {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}[30] وقال تعالى { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا }[31].
2- الميسر قرين الشرك وشرب الخمر: وهذه الصفة مما يزيد قبحه شرعًا، فالمنهيات على درجات، واقتران منهي من المنهيات بأكبر الكبائر في الذكر يزيده قبحًا وسوء، وقد نهى الله عن الميسر وقرنه بكبائر أخرى وعلى رأسها الشرك بالله تعالى فقال {إنما الخمر والميسر والأنصاب و الأزلام…} الآية. والأنصاب عند غير واحد من السلف حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها، وأما الأزلام فهي قداح كانوا يستقسمون بها [32]، وكل ذلك من الشرك وهو أعظم ما عصي الله به ولا يغفر الله لمن مات عليه قال تعالى{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا }[33].
ولعل من حكم اقتران الميسر بالشرك والخمر بيان شناعته لمن تزين له نفسه تعاطيه، فإن كثيرًا من الناس لانتشار الميسر وكثرة المبتلين به من العوام والخواص، وما يتعود من سماع أو قراءة أخباره في وسائل الإعلام قد يهون عليه خطره ويسهل عليه اقترافه مع أنه قد يمتنع عن شرب الخمر وقد لا يشرك بالله تعالى، وهذا منتهى الغباوة والغفلة فما الفرق بين أنواع المعاصي، إذا كانت كلها تعبر عن استهانة بأمر الله ورسوله، وتكشف عن ضعف في الإيمان يعاني منه الإنسان.
3- الميسر رجس: قال تعالى { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس…} الآية (والرجس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس، وقيل إن أصله من الركس وهو العذرة والنتن )[34] والقذارة أو النجاسة قد تكون حسية أو معنوية ومثال الأول الأعيان النجسة فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة فقال إنها ركس [35]،وأما القذارة أو النجاسة المعنوية فمثل الكفار والمشركين الذين قال الله تعالى فيهم { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا }[36] وظاهر النصوص الواردة في ذم الميسر من القرآن والسنة يدل على نجاسته الحسية والمعنوية معًا، مما يوجب على المسلم التنزه عن تعاطيه وملامسة آلاته، وغشيان مجالسه.
وكون الميسر رجسًا يقتضي كون ما يحصله الإنسان من المال بواسطته خبيثا مثل مهر البغي وحلوان الكاهن، ولا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، فلو حج به، أو تصدق به على الفقراء والمساكين، أو بنى به مساجد، أو وقف أوقافًا، فكل ذلك لا يقبله الله منه، وأكله من هذا المال قد يجعل دعوته غير مستجابة، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر المرسلين فقال { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم }[37] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك )[38].
4- الميسر من عمل الشيطان: قال تعالى في وصف الخمر والميسر… { رجس من عمل الشيطان } ( الذي هو أعدى الأعداء للإنسان، ومن المعلوم يحذر منه ويحذر مصائده وأعماله خصوصًا الأعمال التي يعملها ليوقع عدوه فإن فيها هلاكه، فالحزم كل الحزم البعد عن عمل العدو المبين والحذر منها والخوف من الوقوع فيها )[39].
والشيطان حريص على إغواء بني آدم وإبعادهم عن رحمة الله بما يزين لهم من الشرك وسائر المعاصي { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين }[40] وللشيطان في إغواء الناس وسائل وأساليب مختلفة فهو يستفزز من استطاع بصوته و يجلب عليهم بخيله ورجله {قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزائكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}[41] ومما يعدهم الشيطان الفقر فيقول لهم إن أنتم التزمتم بشرع الله في البيع والشراء وسائر وسائل الكسب لافتقرتم، فالربا والميسر والغش والسرقة مما لا بد منه في زمننا هذا قال تعالى {الشيطان يعدكم الفقر والله يعدكم مغفرة منه وفضلا }. [42]
5- الميسر من موانع الفلاح: ومن أضرار الميسر أنه من موانع الفلاح، وذلك بمجرد ارتكابه بدون استحلال فيمنع من مطلق الفلاح لما يسحقه من يلعب بالميسر من غضب الله وعذابه لأنه من كبائر الإثم، و يمنع من الفلاح مطلقًا إذا استحل الميسر وكذب الله ورسوله، ورمى الشريعة بالضيق والقصور فيخرج بذلك من الإسلام، ويستحق الخلود في النار والعياذ بالله، قال تعالى { بلى من كسبت سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }[43].
وإذا تأملنا في حالة كثير من البلاد التي ابتلاهم الله بهذه العادة السيئة وجدناهم وصلوا إلى هذه الدرجة من محاربة الله ورسوله، حيث أذنت الحكومات بممارستها ونظمت عملياتها، وصنفت مؤسساتها من مؤسسات التنمية الوطنية، وتنشر أخبارها وإعلاناتها في مختلف وسائل الإعلام، والأشد من ذلك ما تشهده من سكوت تام للعلماء والدعاة عن إنكار هذا المنكر ومحاربته، حتى ليخشى أن يعم الله الجميع بمؤاخذته إذا جازى عباده بما يقترفون، اللهم غفرانك.
صورة أحد ألعاب الميسر الحديثة
6- الميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة: إن متعاطي الميسر يهدرون أوقات غالية في ممارسة اللعب بوسائل الميسر من أوراق أو كعاب وغيرها…، وبمتابعة أخبار الفائزين والخاسرين، ويضيعون الجمع والجماعات، ويعرضون عن مجالس ذكر الله و حلق العلم، ويغفلون عن المواعظ وعن تذكر الموت وعذاب القبر وعن أهوال الآخرة، فتصبح معيشتهم ضنكا بما يخسرون من أموالهم وبما يضيعون من أعمارهم ويفوتون من مصالحهم، ويحشرون يوم القيامة – إن لم يغفر الله لهم – عميانا إلى عذاب الله وغضبه قال تعالى{ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى }[44].
ومن الملاحظ أن أكثر الناس تعاطيا للميسر هم الجهال والعصاة قاصري العقول من الناس، ويقل فيهم المثقفون ومرتادي المساجد وحلق الذكر مصداقًا لقوله تعالى { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون }[45] قال أبو العالية ( إن الصلاة فيها ثلاث خصال فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله القرآن يأمره وينهاه… )[46].
مفاسد الميسر الدنيوية:
كما أن للميسر مفاسد تتعلق بدين المرء وتعرضه لغضب الله وعذابه يوم القيامة، فكذلك فإن له مفاسد تتعلق بالحياة الدنيا فتعكرها وتنغص صفوها، وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض تلك المفاسد، كما أن بعضها مشاهدة وملموسة من واقع الحياة اليومية للمشتغلين بالميسر، وهذه بعض تلك المفاسد الدنيوية:
1- الميسر يسبب العداوة والبغضاء بين الناس.
يعد التآلف و التحابب بين أفراد المجتمع الواحد من عوامل قوة ذلك المجتمع وأسباب تقدمه ونموه، لأنهم يكونون كالجسد الواحد، كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي الملتزم بتعاليم الكتاب والسنة ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )[47] ومجتمع كهذا يتعاون أفراده على كل بر يعين على مصالح الدنيا وكل تقوى ترضي الله ورسول الله، قال النووي معلقًا على الحديث ( هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم والتلاطف والتعاضد في غير إثم ولا مكروه ). [48]
والميسر بأنواعه وأشكاله عادة سيئة تؤدي انتشاره في المجتمع إلى العداوة والبغضاء قال تعالى { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة في الخمر والميسر } و قال الإمام الطبري رحمه الله ( يقول تعالى ذكره إنما يريد لكم الشيطان شرب الخمر والمياسرة بالقداح ليعادي بعضكم بعضا ويبغض بعضكم إلى بعض فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان وجمعه بينكم بأخوة الإسلام )[49].
ووجه ذلك – والله أعلم – أن الميسر لا يخلوا من ربح أو خسارة، وكلاهما حاصل على نحو باطل لا يقره دين ولا عقل، وليس كربح التجارة أو خسارتها، لأن التاجر المسلم أو العاقل يعترف بقضاء الله وقدره، ويسلم بنهاية الصفقات حسب المقدمات الصحيحة التي تمليها طبيعة العرض والطلب، أما المقامر فيسعى وراء خيال وسراب ويركض خلف حظ موهوم، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، فيعض على أنامل الحسرة، ويلتفت فإذا حوله مياسروه يسخرون بملء أفواههم لما ربحوه من أموال الناس بالباطل، فهل بعد ذلك يتصور بين الفريقين مودة أو رحمة، لا وهيهات !!
2-الميسر من عوامل انتشار البطالة.
الواجب على الحكومات والدول الناصحة لرعاياها أن توفر لها فرصًا حقيقية للعمل والتكسب، وذلك بإقامة مصانع كافية تستوعب السواعد القوية من المواطنين والكفاءات العالية من الباحثين والعلماء، وإيجاد مزارع واسعة تكفي الفلاحين والمزارعين، وتيسير تجارة رائجة يصفق بها الأغنياء في الأسواق، فتتحقق الكفاية لعامة الشعب وتقل البطالة، وتقضى على الجريمة ويعم الأمن في ربوع البلاد.
قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله ( والمقصد الشرعي في الأموال كلها خمسة أمور: رواجها، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها، فالرواج دوران المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق، قال تعالى { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله}[50] وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة )[51] وقال أيضا { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها }[52]… )[53].
ولا شك أن الميسر لا تمت إلى واحد من هذه المقاصد بصلة، بل إن شيوعه في المجتمع يعطل الصناعات ويخسر التجارات وتهلك المزارع، كيف لا، والشياطين تعد السذج من الناس بالغنى الفاحش والثراء الطاغي بمجرد مشاركة في لعبة الميسر!!(…)
3- يساهم الميسر في تفشي الجريمة.
إن صالات القمار، أو قل إن مجتمعات القمار لا تخلوا في أغلب الأحيان من جرائم السرقة والقتل ومن الشرب والخلاعة و الميوعة، قال بن سيرين في تعريف الميسر ( كل لعب فيه قمار من شرب أو صياح أو قيام فهو من الميسر )[54].
أما السرقة فلأن المشاهد للعبة القمار وكيف يخسر هذا بسرعة وكيف يربح ذلك في طرفة عين تستهويه العملية فيود المشاركة فيها بأي طريق ممكن، وغالبًا ما يلجأ إلى السرقة لإشباع تلك الرغبة العارمة، واعتبر ذلك في الأولاد الذين يتقامرون بالجوز والكلل وغيرها، فإنهم يسرقون الأموال من آبائهم وأمهاتهم ليشترون بها تلك الأغراض التي يتقامرون بها مع زملائهم.
وأما القتل فلما يسوء بعضهم أن يذهب ماله هباء في دقيقة واحدة وربما تعب وكد في تحصيله، فيشتاط غضبًا، فينتحر هو، أو يقتل أصحابه ليسترد ما ذهب من ماله.
أما الشرب والخلاعة والميوعة فهو نصيب الفائز الخاسر من المقامرين، لإن الله تعالى يمحق الربا ويربي الصدقات، فالمال الحلال يسهل إنفاقه في الوجه الحلال بل الواجب والمندوب، وأما المال الحرام فيستهلكه صاحبه فيما يضره من شهوتي الفرج والبطن، ولهذا فإن صالات القمار في أغلب الأحيان أوكار للرذيلة والمخدرات.
4- في الميسر أكل لأموال الناس بالباطل:
ومن مقصود الشارع في الأموال أيضا كما يقول بن عاشور رحمه الله ( الوضوح، والحفظ، والعدل، والإثبات ) ويستمر – رحمه الله – في شرح تلك المقاصد قائلا: ( وأما وضوح الأموال فذلك إبعادها عن الضرر والتعرض للخصومات بقدر الإمكان، ولذلك شرع الإشهاد والرهن في التداين، وأما حفظ المال فأصله قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل…}[55] وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس )[56]، أما إثباتها فهو تقريرها لأصحابها بوجه لا خطر فيها ولا منازعة، أما العدل فيها فذلك بأن يكون حصولها بوجه غير ظالم وذلك إما أن تحصل بعمل مكتسبها، وإما بعوض من مالكها أو بتبرع وإما بإرث ومن مراعاة العدل حفظ المصالح العامة ودفع الأضرار )[57].
ومال الميسر كسب رخيص يكتنفه الغموض من كل جانب، ولا يعرف الرابح من أين جاءه الربح ولا يدري الخاسر من أين أتاه الخسران، ولا يمكن تقريره بوجه لا منازعة فيها، ولذلك يدلون إلى الحكام ليأكلوا فريقا من أموال الناس بالباطل، أما مقصد العدل فهو أبعد المقاصد عن الميسر، فالميسر هو الظلم بعينه، إذ بواسطته يأكل الناس بعضهم أموال بعض بغير وجه حق، ومهما قال لك المقامر في حرية ممارسته لهذه العادة السيئة، فإنه لا يطيب نفسا بما يخسر من مال.
الخاتمة:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. مما يشير إلى ضرورة الابتعاد عن كل هذه الألعاب صغرت أو كبرت سواء من باب التسلية البريئة أو اللهو وتجنب صحبة المبتلين بهذه الأمراض كي لا يصاب أصحابه بالعدوى وهو مرض يصعب التخلص منه، فحذاري من التجربة.
وكل ذلك مما أخبر الله في كتابه ومن أصدق من الله حديثا، والمجتمعات البشرية اليوم تعاني من ويلات كل هذه الأضرار والمفاسد، ولا منجى و لا مفر من ضنك الحياة وضيق المعاش الذي هم فيه إلا بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله والتمسك بكتابه وسنة رسوله. والله المستعان.
__________________________________
* داعية وباحث إسلامي من السنغال. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.quran-m.com ومن أحب التوسع يمكن تحميل البحث بشكل مفصل بالضغط على الرابط التالي:
http://www.quran-m.com/words/meser.doc
الهوامش: [1] – تفسير القرآن العظيم 2 / 92 للإمام إسماعيل بن عمر ابن كثير ط دار الفكر – بيروت1401 هـ – [2] – المصدر نفسه 2 / 92. – [3] – المصدر نفسه 2 / 92 – [4] – تفسير الطبري 2 / 385 للإمام محمد بن جرير الطبري ط دار الفكر – بيروت 1405 هـ – [5] – تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن تأليف اعلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي ص 98 ط مؤسسة الرسالة – بيروت – [6] – الحلال والحرام ص 273 للشيخ يوسف القرضاوي. – [7] – المصدر نفسه 277 – [8] – سورة البقرة 219 – [9] – تفسير القرآن العظيم 1 / 256 مصدر سابق – [10]- المائدة: 90, 91 – [11] – الأنعام: 145 – [12] – التوبة: 95 – [13] – الأعراف:71 – [14] – أضواء البيان 2 / 405 تأليف الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ط دار الفكر – بيروت 1415 هـ – [15] – المصدر نفسه 2 / 405 – [16] – البقرة: 188- [17] – تفسير السعدي ص 88 – [18] المصدر نفسه ص 88 – [19] صحيح مسلم 4/ 1770 ط دار إحياء التراث العربي – بيروت – [20] – شرح النووي على مسلم 15 / 16 ط دار إحياء التراث العربي – بيروت 1392 هـ – [21] – رواه الحاكم في المستدرك، وقال ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) 1 / 114 لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري ط دار الكتب العلمية – بيروت 1411هـ ورواه غيره. – [22] شرح الزرقاني على الموطأ 4 / 455 لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني ط دار الكتب العلمية – بيروت 1411 هـ – [23] – سنن البيهقي الكبرى 10 / 213 للإمام البيهقي نشر / مكتبة دار الباز – مكة المكرمة 1414 هـ – [24] انظر: لسان العرب 1 / 729 لابن منظور ط دار صادر ـ بيروت – [25] – تفسير السعدي ص 98- – [26]- روضة الناظر وجنة المنتظر 1 / 126 للشيخ عبد القادر بن أحمد بن بدران ط مكتبة المعارف – الرياض – [27] – البقرة: 275- [28] – يوسف: 90 – [29] – الطلاق: 2 – [30] – الطلاق:4 – [31] – الطلاق: 5- [32] تفسير القرآن العظيم 2 / 93 [33]- النساء [34] أضواء البيان 1 / 426 – [35] صحيح البخاري 1/ 70 ط دار ابن كثير – بيروت 1407 هـ – [36] – التوبة: 28 – [37] – المؤمنون: 51- [38] – صحيح مسلم 2 / 703 ط دار إحياء التراث العربي – بيروت – [39] – تيسير الكريم المنان للسعدي 243- [40] – الأعراف 16، 17 – [41] الإسراء: 63، 64 – [42] سورة البقرة 268- [43] -سورة البقر: 81 – [44] – طه: 124-[45] – العنكبوت: 45 – [46] – تفسير القرآن العظيم 3 / 416 – [47] – صحيح مسلم 4 / 1999- [48] – شرح النووي على مسلم 16 / 139 – [49] – تفسير الطبري 7 / 32 – [50] سورة المزمل الآية 20- [51] – رواه البخاري ومسلم. – [52] – البقرة: 122 -[53] – مقاصد الشريعة الإسلامية ص 464 تأليف العلامة محمد الطاهر بن عاشور ط دار النفائس للنشر والتوزيع – الأردن 1421 هـ – [54] – تفسير الطبري 2 / 385 للإمام محمد بن جرير الطبري – مصدر سابق – [55] سورة النساء الآية 29 – [56] – سنن الدارقطني 3 / 26 ط دار المعرفة – بيروت 1386 هـ -[57] مقاصد الشريعة الإسلامية ص 473 فما بعدها ( بتصرف ) – [58]- المائدة: 90, 91.