الجزء الثالث: الإعجاز التشريعي في السنـّة النبوية الشريفة
د. محمد عبد الرحمن المرعشلي(1)
ما هي مزايا وخصائص الإعجاز التشريعي في السنة النبوية؟
كل ما ذكرناه في مقالٍ سابق من خصائص ومزايا الإعجاز التشريعي في القرآن، ينطبق على السنة الشريفة، فالسنة هي المفسرة للقرآن كما في قوله تعالى )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم((2) فهي التي تقيد مطلقه، وتبين مجمله، وتخص عامّه، وقد تستقل بالتشريع(3)، فقد أعطي r جوامع الكلم كما روى مسلم في “صحيحه” بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: “فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلِم…”. الحديث(4)، فما معنى جوامع الكلم؟ وما علاقة ذلك بالمبادئ التشريعية؟ هذا ما يجيب عنه الإمام النووي حيث قال في “المنهاج”(5): “قال الهروي: يعني به القرآن، جمع الله تعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة، وكلامه كان بالجوامع قليل اللفظ، كثير المعاني” وهذا يؤكد ما سبق وقلناه حول مزايا وخصائص الإعجاز التشريعي في القرآن على لسان النبي r، وبالإضافة إلى القرآن يقول r: “ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه(6)” قال ابن كثير(7): “يعني السنة، والسنة أيضاً تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن”(8).
* المبادئ التشريعية في القواعد الفقهية التي أساسها السنة النبوية
نجد في الأحاديث النبوية الشريفة مبادئ تشريعية وقواعد كلية جامعة في قوالب موجزة رائعة إنها القواعد الفقهية(9)، ولتوضيح ذلك وإبراز وجه الإعجاز التشريعي سنمثل لذلك بإعطاء مثلين:
المثال الأول قوله r: “لا ضرر ولا ضرار”(10)، وهو قد سبق بأسلوب النفي للجنس للمبالغة، لأن معناه النهي، أي لا يضر أحد بآخر فلا يلحق به مفسدة مطلقاً، وكذلك لا يلحق مفسدة على وجه المقابلة له، فلا يجوز الإضرار بأحد في نفسه، أو ماله، أو عرضه، حتى ولو نتج ذلك من قيام الإنسان بالأفعال المباحة، كمن يحفر بئراً في داره ولكنه يضر بجاره، وهذا ما يسمى بالتعسف في استعمال الحق الذي سبق فيه الإسلام كل النظم الحديثة.
وكذلك لا يجوز مقابلة الإضرار بالإضرار، فمثلا لو أتلف شخص مال آخر، فلا يجوز للآخر أن يقوم بإتلاف مال المعتدي، بل عليه أن يأخذ بدله عن طريق القضاء أو نحوه.
وتتفرع من هذا المبدأ آلاف المسائل والفروع حتى قال الإمام السيوطي: “إن هذه القاعدة ينبني عليها كثير من أبواب الفقه، من ذلك: الرد بالعيب، وجميع أنواع الخيار، والحجر(11) بأنواعه، والشفعة، والقصاص والحدود والكفارات، وضمان المتلف، والقسمة ونصب الأئمة، والقضاة، ودفع الصائل (12)، وقتال المشركين والبغاة، وفسخ النكاح بالعيوب أو الإعسار وغير ذلك(13)، بل هي إحدى القواعد الخمس التي يرجع إليها الفقه كله(14).
المثال الثاني: قوله r: “إنما الأعمال بالنيات..”(15) الذي بني عليه قاعدة “الأمور بمقاصدها” وهي من القواعد الفقهية الكبرى حيث قال الإمام الشافعي، وأحمد، وابن المديني، وأبو داود، والدارقطني وغيرهم عن هذا الحديث: “إنه ثلث العلم…” بل قال الشافعي: يدخل في سبعين باباً. قال السيوطي من ذلك ربع العبادات بكماله، كالوضوء، والغسل فرضاً ونفلاً، ومسح الخف.. والتيمم، وإزالة النجاسة على رأي، وغسل الميت على رأي، والأواني في مسألة الضبة بقصد الزينة أو غيرها، والصلاة بأنواعها فرض عين وكفاية، وراتبة وسنة، ونفلاً مطلقاً، والقصر، والجمع، والإمامة، والاقتداء، وسجود التلاوة والشكر، وخطبة الجمعة على أحد الوجهين، والأذان على رأي، وأداء الزكاة، واستعمال الحلي أو كنزه، والتجارة…
بل يسري ذلك إلى سائر المباحات إذا قصد بها التقوي على العبادة أو التوصل إليها، كالأكل والنوم، واكتساب المال وغير ذلك، وكذلك النكاح والوطء إذا قصد به إقامة السنة أو الإعفاف أو تحصيل الولد الصالح، ومما تدخل فيه من العقود ونحوها: كنايات البيع والهبة، والوقف والقرض، والضمان، والإبراء، والحوالة، والإقالة، والوكالة، وتفويض القضاء، والإقرار، والإجارة، والوصية… وفي القصاص مسائل كثيرة..(16)، فعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان يجب أن تكون مبنية على مبدأ الأخوة والتعاون والتناصح، وجميع تصرفاته تحكمها نيته بناءً على هذا الحديث، خلافاً لما نشاهده اليوم، من نوايا الخداع والغش والمكر في معاملات الناس بين بعضهم البعض، إذ يكفي أن يتعرف الإنسان على القوانين ويدرسها جيداً كي يتحايل عليها، ويستغل ثغراتها لتمرير خداعه على البسطاء والسذج، وهكذا تمر خدعته تحت غطاء القانون، ويقع له ضحايا كثيرون من الأبرياء، لا يستطيعون مقاضاته ومحاكمته؛ لأن القانون لا يحمي المغفلين؟!! لقد اهتم الإسلام بالإنسان وتربيته وتهذيبه قبل أن يُـقدم على أعماله، فوجهه إلى إصلاح نيته، وأعلمه أنه محاسب على العمل وفق هذه النية ممّـن خلق الإنسان، ويعرف ما تـُوسوس به نفسه، ويطلع على نواياه، فأين سيهرب يوم القيامة من المحكمة الربانية إن هو أخفى نية السوء وأضمرها؟
أمثلة توضيحية على الإعجاز التشريعي في السنة
هناك أمثلة كثيرة يمكن اعتبارها إعجازاً تشريعياً في السنة، ففي كتاب البيوع وحده واحد وعشرون باباً يندرج تحتها أنواع كثيرة من البيوع وفيها الدعوة إلى عدم بيع المجهول المؤدي للمنازعة والتشاحن والتباغض وزرع الأحقاد بين المتبايعين وعدم الغش في البيع، مثل بيع الملامسة(17) والمنابذة(18)، وبطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر، وتحريم بيع حبل الحبلة، وبيع الرجل على بيع أخيه، وسومه على سومه (حتى لا يكره أحدهما الآخر) وتحريم النجش (وهو الاستثارة وكل من استثار شيئاً فهو ناجش وهو الختل والخداع) والتصرية(19)، وتحريم تلقي الجلب(20)، وتحريم بيع الحاضر للبادي(21) (بأن يكون له سمساراً)، وبطلان بيع المبيع قبل القبض، وتحريم بيع صبرة التمر (أي الكومة المجهولة القدر) بتمر (أي بكيل معين القدر)، وثبوت خيار المجلس(22) للمتبايعين، مع الصدق في البيع (الموجب للبركة)، وتحريم الخداع فيه، والنهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها (أي حتى تذهب عنها الآفة منعاً للتنازع) وتحديد ثمرة من باع نخلاً عليها تمر (بشرط المبتاع)، والنهي عن المحاقلة(23) والمزابنة(24)، والمخابرة(25)، وعن بيع المعاومة (وهو بيع السنين) بسبب الجهالة في عقودها، وسنكتفي بعرض ثلاثة أنواع من هذه البيوع تبياناً للإعجاز التشريعي في السنة.
المثال الأول: بيان بطلان البيع الذي فيه غرر
فعن أبي هريرة قال: “نهى رسول الله r عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر”(26).
والنهي عن بيع الغرر هو أصلٌ عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع الآبق(27)، والمعدوم، والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتمّ ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع بعض الصبرة مبهماً(28)، وبيع ثوب من أثواب، وشاةٍ من شياهٍ، ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل لأنه غرر من غير حاجة، ومن أمثلة هذه البيوع في زماننا شراء الأدوات المنزلية أو الكهربائية أو السيارات وغيرها وهي غير موجودة في الشركات، وأجمع المسلمون على بطلان بيع الأجنة في البطون، والطير في الهواء بسبب الغرر إلا إن دعت حاجة إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة، وكان الغرر حقيراً جاز البيع وإلا فلا(29)، وكانت هذه البيوع من بياعات الجاهلية المشهورة، لكن أبطلها النبي r بالنصوص التشريعية لما ينتج عنها من شرور ومفاسد وظلم وغبن مالي وتجاري ومنازعات سادت المجتمع، فما أعظم هذا النبي الكريم! وليت المسلمون ينتبهون اليوم في أسواقهم لهذا، بالامتناع عن بيع أو شراء المعدوم!
المثال الثاني: بُطلان بيع المبيع قبل القبض
فعن النبي r أنه قال: “من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتى يستوفيه(30)” (31)، وفي رواية: “حتى يقبضه” وفي رواية: “كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً، فنهانا رسول الله r أن نبيعه حتى ننقله من مكانه”، والعلة في ذلك أن عدم استيفاء السلعة أو قبضها أو استلامها بيد الشاري يؤدي إذا لم يتم إلى فتح باب الريب والشكوك الموصلة للمنازعات، فربما تنشأ ظروف قاهرة تمنع التسليم أو تتلف السلعة، أو تودي بها إلى الهلاك، فإذا باعها صاحبها قبل استلامها دخل مع زبونه في دائرة التزوير والغش وعدم القدرة على التسليم، فصار كبيع المجهول والمعدوم أي بيع الغرر.
ولهذا كله حرص النبي r على منع ذلك باستيفاء السلعة ابتداءً، لسد الذرائع، وكم توجد اليوم بيوع معاصرة يندم أصحابها على فعل الشراء لأنها غير مقدورة التسليم كونها وهمية أو غير موجودة أو لا تتفق والشروط التي طالب بها الشارع الحكيم مثل التجارة بالبورصة أو الشراء على الانترنيت بدون الضوابط الشرعية!! فيصبح أصحابها ضحية اللصوص، وتذهب أموالهم ضياعاً وحسرة وندامة، فلله در هذا النبي الكريم r الذي طالب بالضمانات عند البيع والشراء حتى يمنع هذا الغش وهدر أموال الناس في مهب رياح الجهالة؟
المثال الثالث: النهي عن بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها
فعن ابن عمر: “أن رسول الله r نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع”(32) وفي لفظ: “نهى عن بيع النخل حتى يزهو(33)“(34) ، وفي لفظ آخر: “لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة”(35).
والعلة واضحة في النهي عن مثل هذا البيع وهي الخوف من عدم ظهور الثمار إذا تعاقد الشاري والبائع قبل هذه المرحلة فيكون كشراء المعدوم، وهذه المشكلة تنتشر اليوم في العقود الزراعية باسم “ضمان الأراضي” خلافاً للسنة حيث يضمن أصحاب البساتين الزراعية محصولها على مبلغ معين قبل ظهور ثمارها، وربما ظهرت آفة أو جائحة أو صقيع أو جفاف مانع لظهور الثمار، فتبدأ المنازعات بين المتعاقدين ومعها خراب بيوت الناس، وهذا الذي حذر منه r، فلله در هذا التشريع العظيم! وهذا النبي المشرّع الحكيم.
________________________________________________
(1) أستاذ التفسير في كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية – بيروت.
(2) النحل/ 44.
(3) انظر هذا الاستقلال بالتشريع عند السباعي في كتابه “السنة ومكانتها في التشريع” الصفحة (414).
(4) أخرجه مسلم.
(5) النووي “المنهاج” (5/8).
(6) رواه أحمد.
(7) ابن كثير “تفسير القرآن العظيم” (1/4).
(8) انظر استدلال الإمام الشافعي على هذا في كتابه العظيم “الرسالة” الصفحة (64) فما بعد.
(9) القاعدة الفقهية هي: قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها” الجرجاني “التعريفات” الصفحة (251).
(10) رواه أحمد وابن ماجه.
(11) الحجر: المنع، وهو منع نفاذ التصرفات القولية وهو نوعان: تام بسبب الجنون وعدم التمييز، وناقص بسبب السفه والإفلاس ومرض الموت. “معجم لغة الفقهاء” لقلعه جي الصفحة (154).
(12) الصائل: هو المتعدي كما في لسان العرب لابن منظور مادة (ص و ل) والصيال: السطو والتهديد للأموال أو الأنفس أو الأعراض “معجم لغة الفقهاء” لقلعه جي الصفحة (250).
(13) السيوطي “الأشباه والنظائر” الصفحة (92)، وابن نجيم “الأشباه والنظائر” الصفحة (85).
(14) السيوطي “الأشباه والنظائر” الصفحة (8).
(15) متفق عليه.
(16) السيوطي “الأشباه والنظائر” الصفحة (8-10)، ابن نجيم “الأشباه والنظائر” الصفحة (20).
(17) الملامسة: من اللمس، أن يتفق المتعاقدان على تسليم ما تلمسه يده بمبلغ كذا، معجم لغة الفقهاء” لقلعه جي الصفحة (427).
(18) المنابذة: من النبذ وهو الإلقاء، أن يشتري الثوب دون تعيين ثم يأخذ الثوب الذي ينبذه البائع، وهو من بيوع الجاهلية “معجم لغة الفقهاء” الصفحة (430).
(19) التصرية: معناه جمع اللبن في ضرع الإبل والغنم عند إرادة البيع، فيظن المشتري أن كثرة لبنها عادة لها مستمرة. انظر “صحيح مسلم” (3/1155).
(20) وهي تلقي السلع قبل أن تبلغ الأسواق. “صحيح مسلم” (3/1156).
(21) وهو تلقي الركبان. “صحيح مسلم” (3/1157).
(22) بأن يكون لكل من المتعاقدين حق فسخ العقد ما داما في مجلس العقد، ما لم يتفرقا عنه في أبدانهما، وعند الحنفية: أن يكون لكل من العاقدين الرجوع عن العقد ما لم يقبل الآخر بالبيع التعريفات للجرجاني الصفحة (170).
(23) المحاقلة: (من الحقل) هو بيع الحنطة مع سنبلها بحنطة، مثل كيلها تقديراً انظر “التعريفات” للجرجاني الصفحة (287)، أو هي كراء الأرض بجزء مما يخرج منها كما في “معجم لغة الفقهاء” لقلعه جي (378).
(24) المزابنة: من الزبن وهو الدفع، بيع معلوم القدر بمجهول القدر من جنسه، أو بيع مجهول القدر بمجهول القدر من جنسه كبيع الرطب على النخيل بتمر مجذوذ. التعريفات للجرجاني الصفحة (295).
(25) المخابرة: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض “مختار الصحاح” للرازي مادة (خبر).
(26) أخرجه مسلم.
(27) وهو العبد الذي يهرب.
(28) الكمية من الطعام لا يعرف مقدارها.
(29) النووي “المنهاج” (10/395-396).
(30) يستوفيه: أي يقبضه وافياً، كاملاً، وزناً أو كيلاً.
(31) أخرجه مسلم.
(32) أخرجه مسلم.
(33) يزهو: أي يظهر ثمره كما في “المنهاج” للنووي.
(34) كما عند مسلم.
(35) أخرجه مسلم.
وردت في فقه البيوع أبواب لم يرد في أي تشريع آخر