الأستاذ إبراهيم فرشوخ*
مع تنوع العلوم وتوسع الاختصاصات، رأى النور علم جديدٌ يدعى العلم الكوني للغات The Universal Science of Linguistics منذ حوالي 30 سنة وتم الاعلان عنه رسميًا في تشرين الثاني عام 2003 في جامعة لندن. ثم تبعتها بعض الجامعات الاميركية بالبحث والدراسة.
وقد وجد الدكتور سعيد ابراهيم الشربيني وهو أحد المتخصصين في هذا المجال، أن اللغة العربية تتمتع بخصائص مذهلة، لعلها السبب في ثباتها وصمودها عبر آلاف السنين، ولعلها تكون سببًا في بقائها واستمرارها إلى وقت طويل في حين يدقق العلماء في أسباب تساقط عدد كبير من اللغات الأخرى واندثارها.
تعريف هذا العلم:
علم اللغات الكوني علم يدرس جميع لغات العالم في آنٍ واحد ويدرس أنظمتها النحوية (الأفعال – الأسماء – الضمائر – الصفات) كما يدرس العلاقة الوراثية (الجينية) بين اللغات لمعرفة مصدر كل لغة ومن أي لغة انحدرت.
أهمية هذا العلم:
لاحظ العلماء أن اللغات الألف المعروفة في العالم بدأت تندثر، وأن 400 لغة إلى الآن قد ماتت ولم يبق سوى 604 لغات وأن اللغات قد توقفت عن الانجاب أي لم تظهر منذ وقت طويل أية لغة مستحدثة جديدة.
وفي الهند وحدها ماتت 40 لغة في العام الماضي، ومعدل وفيات اللغات هو لغة واحدة في كل أسبوع أي بمعدل 50 لغة في السنة الواحدة.
أسباب موت اللغات:
اللغة هي وسيلة التواصل بين البشر، والمادية هي سمة العصر، وحاجة الناس إلى الكلام المختصر تتسارع، ولا وقت لديهم لتصريف الأفعال والاعتناء بالألفاظ دونما فائدة تذكر، ففي اللغة الانجليزية 22 طريقة للتعبير الزمني (ماضي – ماضي قريب – حاضر – مستقبل…).
وإذا فقدت اللغة أزمانها (الماضي والحاضر والمستقبل) وضمائرها تصبح “معوقة”.
وآخر لغة ماتت هي اللغة النوبية في مصر. وقد سبقتها وفاة اللغة اللاتينية. ومعنى وفاة اللغة أن استعمالها قد انحسر لدرجة انها لم تعد متداولة بين الناس وانها أصبحت مقتصرة على العلماء والمتخصصين وبعض المتشددين الذين بوفاتهم يتوقف استعمال اللغة نهائيًا بين الناس.
واللغة المقبلة على الوفاة هي اللغة التي لا تمد حروفها ولا تنفس فيها أي لا تحتاج إلى طول الانفاس خلال اللفظ فإذا تسارعت الألفاظ تعتبر اللغة أنها تلهث وذلك قبيل الوفاة وذلك بعكس اللغة العربية التي تمد حروفها وتحتاج إلى أنفاس لاخراج بعض الألفاظ فيها.
ومن أسباب موت اللغات كذلك هو عجزها عن تفسير المعاني المطلوبة والمتوفرة في لغات أخرى، فضيق اللغة يعني عدم قدرتها على مجاراة الزمن ومتطلبات العصر.
بعض علامات الحياة والموت في اللغات:
حرف الراء في اللغة يعادل المادة الخضراء في الشجرة وهو علامة حياة اللغة ومتى فقد هذا الحرف أو عدِّل أو خفف فمعنى ذلك أن اللغة قد فقدت الروح.
وأما حرف الباء فهو الجذع الرئيسي لشجرة اللغات ولفظه الصحيح يعني صحة اللغة وسلامتها ومتى خفف لفظ هذا الحرف ليصير حروفًا أخرى فالمعنى أن اللغة دخلت مرحلة الشيخوخة.
أما “أل” التعريف في بداية عدد من اللغات فهو جذر هذه اللغات وهو علامة حياتها واستمرارها. وهذه الميزة نقلت اللغة العربية من أسفل قائمة اللغات إلى المرتبة الثانية لأن أل التعريف هي علامة عدم قابليتها للموت.
هل هناك لغة أم:
يرى البروفسور ديفيد كريستال وهو مقيم في ويلز في بريطانيا بحسب د. الشربيني، أن هناك لغة أم بدأت بها البشرية وهي لغة حيّة باقية ولا زالت متداولة بين الناس ولا بد من وجود أشخاص يجيدونها على الدوام وستبقى هذه اللغة وتستمر. لكنه ترك لمن سيأتي بعده تحديد أية لغة هي هذه اللغة الأم.
العلاقة الجينية بين اللغات:
تجري المقارنة بين اللغات على مستويات عدة لمعرفة ما إذا كانت تنحدر من لغة أم واحدة. فهناك لغة أم وابنتها وربما حفيدتها.
وتجري المقارنة بين تشابه الألفاظ والمعاني، كما تجري مقارنة التأنيث والتذكير في الأفعال وفي ضمائر الجمع والمتكلم والغائب والمخاطب.
فنجد علاقة جينية بين اللاتينية والايطالية ونجد أنواعًا من الشبه في الصرف والنحو بين اللغتين العربية واليابانية. ولعل ما ثبت من أن الاسطول الحِمْيرِي كان يسيطر على بعض جزر اليابان في العصور القديمة ما يفسر مثل هذه العلاقة، والقول هنا للدكتور الشربيني.
وعلى سبيل المثال فإن شيئًا من الشبه يظهر بين كلمة girl الانكليزية وكلمة جارية بالعربية ومعناهما “فتاة”.
وكذلك كلمة طبلية وكلمة table بالفرنسية والانكليزية.
أما كلمة talk فربما كان مردها إلى كلمة انطلق أي تكلم وحدك دون تبادل للحديث مع الغير.
النسيج الصوتي:
زيادة على المعاني في كل لغة تجري دراسة الألفاظ والأصوات الناجمة عنها، وعلى الرغم من حداثة هذه الدراسات فقد انتبه علماء الغرب إلى سلاسة ألفاظ القرآن وانسيابها وتجاورها في جمل موسيقية منسجمة ليس فيها ما يخدش الأسماع. وقلّما تجد لغةً في العالم غير العربية يمكن تلحين جملها المنثورة بنغمات موسيقية بهذه الكثافة.
وهناك أحرف في بعض اللغات تشير إلى خلل في اللفظ مثل الحرف الفرنسي o ويسمى “الحرف الناسف” لأنه يوقف انسياب الجملة عند لفظه وينسف اللفظ الذي بعده.
وكذلك في اللغة الانكليزية بحيث يلغي هذا الحرف لفظ الحروف الآتية بعده مثل court – walk – talk الخ…
ومن الدلائل على موت بعض اللغات لأسباب صوتية هو تجاور بعض الحروف غير المنسجمة مع بعضها مثل حرفي القاف والجيم واللغة العربية ليس فيها كلمات يتجاور فيها مثل هذين الحرفين.
عدد المفردات في كل لغة = سعة اللغة:
– مفردات اللغة العربية تقارب 4 ملايين لفظة.
– مفردات اللغة الصينية تقارب 200 ألف لفظة.
– مفردات اللغة الانجليزية تقارب 150 ألف لفظة.
– مفردات اللغة الفرنسية أقل من 100 ألف لفظة.
ميزات اللغة العربية:
تتميز اللغة العربية بكثير من الخصائص فهي تحتوي على أوسع المفردات وأكثر الأوصاف، وتراعي كافة الضمائر وتصرف الأفعال في كافة الأزمنة، كما تراعي التأنيث والتذكير. وتمتاز بالمثنى وهو ما بين الجمع والمفرد.
ومن أهم ما تتميز به اللغة العربية أنها بقيت محافظة على جميع قواعدها وخصائصها وغالبية مفرداتها رغم مرور آلاف السنين عليها، بينما نجد أن الفرنسية والانكليزية مثلاً تعرضتا منذ العصور الوسطى لتعديلات واسعة حتى تمكنتا من مجاراة العصور المتأخرة، لجهة الألفاظ وتصريف الأفعال وتعديل بعض التعابير.
أسرار بعض ألفاظ العربية:
– الجهاز الكاشف
انجز العلماء جهازًا يدعى Machine Translation وهو عبارة عن آلة صغيرة الحجم توضع أمام الفم لتعطي على الشاشة عدد الأصوات التي تصدر عنه عند التلفظ بحرف أو كلمة ما.
أمكن لهذا الجهاز أن يعطي فكرة عن التأثير الصوتي والانفعالي لكل حرف أو كلمة.
– لفظ اسم الجلالة: الله
جاء هذا الجهاز بنتائج جيدة لعدد كبير من اللغات على حد قول الدكتور الشربيني، لكن المفاجأة كانت مع اللغة العربية إذ كيف تعطي “أل” التعريف ثلاثة أصوات على الشاشة وهذا طبيعي بينما تعطي كلمة “الله” صوتًا واحدًا! اذ عجز الجهاز عن احصاء عدد الأصوات التي تخرج من حرف “اللام” المشددة في لفظة اسم الجلالة، مما دعا العلماء إلى تسمية هذا الصوت بالصوت المهيمن The over whelming sound، ومن الغريب أن لفظ اللام المفخمة غير موجود في أية كلمة عربية باستثناء لفظ اسم الجلالة “الله و اللهم”. ثم تأتي اللام مخففة في بقية الألفاظ التي تبدأ بالألف واللام…
– لفظ كلمة رب
أعطى لفظ كلمة رب على الجهاز الأثر الصوتي الآلي لعبارات محددة مثل الباعث والخالق والمعطي والمنشئ والمكرم، وذلك عند لفظ حرف “الراء” من كلمة رب.
وأعطى صوت الباء من كلمة رب معنى أن ما قبلي هو أكبر شيء.
مما جعل المعنى الآلي المنبعث من حرفي الراء والباء مجتمعين أن رب تعني الخالق الأكبر والباعث الأكبر والمعطي الأكبر.
وفي الختام فإن الأبحاث لا زالت جارية حول اللغة الأكثر صمودًا بين لغات العالم ولم تتوقف بعد ولا زالت اللغة العربية تعطي أفضل النتائج بين سائر اللغات وبشائرها تتضح تباعًا، وتتميز اللغة بمفردات ليست في غيرها فالشكر والمدح معروفان في معظم اللغات لكن الحمد والتسبيح والتكبير مثلاً ليست موجودة إلا في قاموس اللغة العربية ويكفي أن جامعة لندن قررت تصنيف اللغة العربية بأنها واحدة من اللغات الأم وتم اعتمادها في تصانيف كثيرة على أنها لغة باقية وقابلة للعيش طويلاً. ومن المتوقع أن لا يبقى من لغات العالم سوى 15 لغة متداولة في العام 2030 ولا يصمد منها حتى العام 2090 إلا 3 لغات والعربية واحدة من هذه اللغات الصامدة الثلاث.
ويكفي تفسير لفظة “عربية” من وحي القرآن لقوله تعالى: {عربًا أترابًا} وتعني شبابًا لكي نستلهم أن اللغة العربية التي صمدت 1400 سنة حتى الآن هي لغة شابة لن تموت. انها لغة القرآن ولغة أهل الجنة، انها لغة الخلود.
________________________
* رئيس مصلحة في وزارة الإتصالات.