الشيخ د. عماد القنواتي*
مقدمة:
إذا زرتم مدينة بيروت عاصمة لبنان، ووصلتم إلى منطقة جسر البربير فاسلكوا طريق السوق الصغير وقبل مسجد عباد الرحمن إسألوا عن شارع قازان ودققوا النظر لتجدوا علامة قديمة بإسم هذا الشارع، فقفوا وتفكروا تذكروا من أين أتى هذا الاسم؟
فثمة مدينة اعتبرت جوهرة الأرض وتراث الإسلام وهي الدار الخضراء دار الخلافة في وسط روسيا الفدرالية وعاصمة جمهورية تتارستان الإسلامية حالياً .
يوم الجمعة في التاسع من رمضان سنة مئتين وتسعين للهجرة كانت مدينة “قازان” العريقة الواقعة على ضفاف نهر الفولغا في سلطنة تتارستان الإسلامية (وسط روسيا الفدرالية حالياً ) خالية من المارة في الطرق، مغلقة الحوانيت، لا تكاد ترى فيها أحداً، لأن الناس قد إجتمعوا حول قصر الخلافة، وفي الساحات المحيطة به، وفي الدروب المؤدية إليه… وكان صحن القصر مزدحماً بالأعيان، أما الأمراء وكبار القادة وجلّة الخواص، فقد إحتلوا المجالس وعلى وجوههم جميعاً أمارات الترقب والإنتظار، حيث سيعلن الخليفة نبأ زواجه على الفتاة سومبك.
فمن هي سومبك؟
إنها فتاة مؤمنة تقية عفيفة من مدينة قازان تدعى (سومبك)، ويبدو عليها من الهدوء والوقار ما ليس مثله على واحدة من نساء تتارستان الإسلامية، فقد نشأت في أحضان العلم تغرف من شتى حقول المعرفة والثقافة وشعارها قوله تعالى (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) {114} سورة طه. ولقد نالت في الواقع كل ما يُطمح إليه من الإيمان والتقوى، فقد وُلدت في منزل معروف بتمسكه بالدين، فوالدها شديد الحرص ألاّ يطعم عائلته إلا المال الحلال، كما أنه لم يغب عن صلاة الجماعة إلا حين حضرته الوفاة، عندها أتى جميع المصلين إلى منزله ليطمئنوا عنه موقنين أنه لن يغيب عن الصلاة إلا لشيء خطير جداً فأرادوا أن يقفوا بجانبه ، فإذا بهم في مأتمه …رحمه الله . ووالدتها معروفة بخُلُقها وورعها، ولم تكن ترضعها إلا على وضوء ، فنشأت ابنتها نشأت مباركة .
المهر المميز
إنتشر خبر إعجاب الخليفة المسلم في مدينة قازان بهذه الفتاة التي كانت مثالاً يُحتذى به بالخُلُق وجلال القدر. وفي يوم الزواج إجتمع داخل القصر نسوة الأمراء يترقبن الأخبار. وفي صدر المجلس زوجات أخوة الخليفة وكل واحدة منهن تترقب ماذا ستطلب العروس الجديدة زوجة الخليفة مهراً لها، وتتمنى كل واحدة منهن أن لا يكون المهر منافساً لمهرها ليخلوا مكانها بين الشعب في الأُبّهة والمال والزينة والقصور!
ولم يطل التفكير كثيراً حتى أجابت سومبك: رضاء الله مطلبي أريد مهراً أبتغي به مرضاة الله ليرتقي بي. لقد سمعتُ كما سمعتم عن مسجد سامراء في بلد الخلافة الإسلامية: العراق، ومئذنته الشهيرة اللولبية (وهي أعلى مئذنة في العالم في ذلك الزمن ، حيث يبلغ ارتفاعها 58 متراً، اي ما يتجاوز ارتفاع بناية مكونة من 19 طابقاً)، التي تعجب كل من يراها، فمن رأها من بعيد تذكّر أن الله يراه فخاف الله وهابه، ومن رأها وهو في داخل المدينة علم كم هو ضئيل فتحركت في نفسه خشية الله وتقرب إلى الله بالطاعة والرجاء. لذلك ، فإنني أريد أن أبني هُنا في قازان مئذنة مشابهة، وهذا هو مهري.
فأجابها الخليفة والسعادة تغمره: لكِ ما أردت.
وهكذا كان لسومبك ما أرادت وكانت فرحتان فرحة الزواج وفرحة إنطلاق صوت الأذان: “الله أكبر” من أعلى قمة مئذنة الملكة سومبك لتعلن القدوة لكل نساء الأمة الإسلامية من غانه الى فرغانه .
وفي يومنا الحالي من يزور قازان عاصمة جمهورية تتارستان يلمح من بعيد منظرا جميلا جداً وإذا دقق النظر اليه يرى مئذنة مشابهة لمئذنة سامراء – العراق ، فيتذكر هذه القصة ويعلم الرابط بين المكانين وسبب البناء … فتراثنا الإسلامي مشترك ويمتد من قازان مرورا بمصر وتطوان وفي وسطهما تتلألأ مكة المكرمة والمدينة المنورة .
_____________________
* طبيب مختبر وباحث في التراث الإسلامي.