المحامي أبو يوسف الكردي*
سورة يوسف من السور الرائعة في القرآن الكريم – والقرآن كله عظيم – وذلك لما فيها من معاني ودلالات – تربوية, دعوية, اجتماعية, قانونية, اقتصادية – إلى حد وصفها الله عز وجل بأنها من أحسن القصص في القرآن الكريم لقوله تعالى {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (سورة يوسف آية 3) وذلك لأنها احتوت على جميع فنون القصة وعناصرها من التشويق وتصوير الأحداث والترابط المنطقي، كما يقول علماء القصص.
فعلى سبيل المثال نجد أن القصة قد بدأت بحلم أو رؤيا لنبي الله يوسف عليه السلام وانتهت بتحقيق وتفسير ذلك الحلم. ونرى أن قميص يوسف الذي استخدم كدليل لبراءة أخوته كان هو نفسه الدليل على خيانتهم. وإن قميصه الآخر استخدم بعد ذلك كدليل لبراءته من تهمة التعدي على امرأة العزيز. ومن ثم استخدم قميصه الثالث كشفاء لعيني والده يعقوب عليه السلام. كل هذا يبين روعة هذه القصة ومعانيها وأحداثها، أما القارئ وكأنه يراها بالصوت والصورة… والأعجب أن هذه القصة تتضمن بيان قواعد ومبادئ قانونية راقية يعتمدها المحققون في كل الأزمنة والأمكنة من أجل كشف الجناة في الجرائم الجنائية في كل العالم، مسلمين وغير مسلمين! حتى نعرف روعة معاني القران الكريم وبداعته وشموله لكل نواحي الحياة التي يحتاجها الإنسان ويتبين ذلك من خلال النقاط التالية:
1. بقع الدم الموجودة في مسرح الجريمة تعتبر دليلاً مهمًا في كشف الجرائم ومرتكبيها.
كما بيّن ذلك قوله تعالى {وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } (سورة يوسف آية 17).
2. التحقيق والخبراء وهو السبيل الوحيد للتحقق من الأدلة والأقوال.
وتمت تبرئة يوسف عليه السلام من جريمة الاعتداء الجنسي على امرأة العزيز عن طريق المحقق الخبير الذي دقق في مسرح الجريمة لقوله عز وجل {قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين } (سورة يوسف آية 26).
3. الاعتراف يعتبر سيد الأدلة في كشف الجناة والمجرمين في الجرائم الجنائية.
ويتبين ذلك بوضوح من خلال الآيتين (51-52) اللتين تنصان على اعتراف نسوة المدينة وامرأة العزيز لقوله تعالى {قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين}.
وكذلك الآيتين (91-97) اللتين تشملان اعتراف أخوة يوسف لقوله تعالى {قالوا تالله لقد اثرك الله علينا وان كنا لخاطئين }، {قالوا يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين}.
أي إن نسوة المدينة، وامرأة العزيز، وأخوة يوسف اعترفوا ببراءته وارتكابهم جرائم بحقه.
4. الكشف على مكان وقوع الجريمة ولا بد من ذلك لتصور الواقعة.
كما في آية (15) التي تتضمن مكان ارتكاب جريمة الشروع بقتل يوسف خارج البيت لقوله تعالى {فلما ذهبوا به واجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون }.
والآية (23) التي تبين ارتكاب جريمة الاعتداء الجنسي داخل بيت امرأة العزيز أي في منزل الزوجية لقوله تعالى {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله انه ربي أحسن مثواي انه لايفلح الظالمون}.
لأن مكان ارتكاب الجريمة وصفة المرتكب لهما أهمية في تشديد أو تخفيف العقوبة في القانون الجنائي .
5. كشف الكذب والذي يعتبر طريقة لكشف المجرم في ارتكاب الجريمة.
الآية (18) {و جاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} التي تتضمن كذب أخوة يوسف على أبيهم بشأن أكل يوسف من قبل الذئب.
وكذب امرأة العزيز بشأن محاولة اعتداء يوسف عليها. كما في الآية (25) {واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم}.
6. الأدوات التي استعملت في ارتكاب الجريمة وتمثيل الجريمة.
كما في الآية (18) والتي تشير إلى أن أخوة يوسف استعملوا قميصه الملطخ بدم كذب لكي يقنعوا أباهم بقتل يوسف عليه السلام.
وتمزيق قميص يوسف في قضية جريمة الاعتداء الجنسي من قبل امرأة العزيز (آية 25) .
وصواع الملك في قضية السرقة {قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} (آية 72).
ومن خلال ما تقدم يتبين لنا براعة وإعجاز القرآن الكريم في كل نواحي الحياة وصلاحه لكل الأزمنة والأمكنة وبيانه في هذه السورة المباركة أهم المبادئ الأساسية في التحقيق في الجرائم الجنائية، علمًا أن القرآن الكريم يحتوي على مبادئ قانونية أخرى. و{ما فرطنا في الكتاب من شيء} أي تطرق القرآن الكريم إلى كل جوانب الحياة إما بشكل مباشر أو غير مباشر و”اللبيب من الإشارة يفهم” .
________________________
* وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.55a.net