د. محمد السقا عيد*
تعريف الغضب
عَرَّف الغضبَ جمعٌ من علماء اللغة وغيرهم ، واختلفت العبارات ، واتفقت الثمرة . فكلمة ( الغضب ) يدرك معناها الصغير والكبير بلا تكلف أو تعب، فتوضيح الواضحات – كما يقال – من الفاضحات ، وقد يزيده غموضا وإشكالا. قال المناوي –رحمه الله تعالى – ” والغضب كيفية نفسانية وهو بديهي التصور ” .[1] ومع ذلك لابد من ذكر شيء من ذلك :
قال القرطبي -رحمه الله تعالى- ” والغضب في اللغة : الشدة ، ورجل غضوب أي شديد الخلُق[2] .
وقيل في معناه : تغيُّر يحصل عند فوران دم القلب ليحصل عنه التشفي في الصدر [3].
والغضب جماع الشر ، ومصدر كل بليّة ، فكم مُزّقت به من صلات ، وقُطعت به من أرحام ، وأُشعلت به نار العداوات ، وارتُكبت بسببه العديد من التصرفات التي يندم عليها صاحبها ساعة لا ينفع الندم .
إنه غليان في القلب ، وهيجان في المشاعر ، يسري في النفس ، فترى صاحبه محمر الوجه، تقدح عينيه الشرر ، فبعد أن كان هادئا متزنا ، إذا به يتحول إلى كائن آخر يختلف كلية عن تلك الصورة الهادئة ، كالبركان الثائر الذي يقذف حممه على كل أحد .
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء : ( اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا ) رواه أحمد .
وقد يمنع الغضب إذا اعترى العبد ، من قول الحق أو قبوله ، وقد شدّد السلف الصالح رضوان الله عليهم في التحذير من هذا الخلق المشين .
وها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : ” أول الغضب جنون ، وآخره ندم، وربما كان العطب في الغضب ” .
ويقول عروة بن الزبير رضي الله عنهما : “مكتوبٌ في الحِكم: يا داود إياك وشدة الغضب ؛ فإن شدة الغضب مفسدة لفؤاد الحكيم ” .
وأُثر عن أحد الحكماء أنه قال لابنه : “يا بني ، لا يثبت العقل عند الغضب ، كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة، فأقل الناس غضباً أعقلهم “.
وقال آخر : ” ما تكلمت في غضبي قط ، بما أندم عليه إذا رضيت “.
وقال لقمان لأبنه : إذا أردت أن تؤاخى أخا فأغضبه ، فإن أنصفت وهو مغضب وإلا فاحذره.
غضب عمر بن الخطاب على عيينة بن حصن من سوء تصرفه وهمّ أن يوقع به، فقال أحد مستشاري عمر: يا أمير المؤمنين إن الله يقول: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ»، وهذا من الجاهلين، فسكت عمر وسكن غضبه، وكان إذا ذُكِّر بالقرآن وقف ولم يتجاوزه.
وأمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز مستشاره مزاحماً أن يُذكِّره إذا غضب بقوله: لا تغضب فيسكن غضبه ويهدأ طبعه، وغضب رجلٌ على أبي بكر الصديق فشتمه وأبو بكر يزداد حلماً وتبسماً، فرفع الرجل صوته وقال: والله لأسبنّك سبّاً يدخل معك قبرك، فقال أبو بكر: بل يدخل معك قبرك أنت.
وعجز بنو تميم أن يُغضبوا الأحنف بن قيس سيدهم وحليم العرب، فاستأجروا رجلاً سفيهاً طيّاشاً وأعطوه مالاً وقالوا: إذا اجتمعنا فجادل الأحنف ثم الطمه، ففعل الرجل فاحتملها الأحنف ولم يغضب وصبر وقال للرجل: أنا أعطيك مثل ما أعطوك. وغاضب فلاناً وكان من سادتهم وكان غضوباً شرساً، فذهب الرجل وغاضبه فقام عليه وطرحه أرضاً وضربه ضرباً مبرّحاً وجعله عبرة للمعتبرين.
والغضب شيء طبيعي، وعادة ما يكون شيئاً صحياً ولكن وفق معايير معينة لأنه عاطفة بشرية. وإذا وصل الإنسان إلى نقطة عدم التحكم يصبح مدمراً ويؤدى إلى مشاكل عديدة .. مشاكل في العمل، مشاكل في العلاقات الإنسانية، أو مشاكل في الحياة العامة.
صور من هدي السلف عند الغضب
دخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة، فمر برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه وقال: أمجنونٌ أنت؟ فقال عمر: لا، فهم به الحرس، فقال عمر: مه، إنما سألني أمجنون؟ فقلت: لا.
ولقي رجل علي بن الحسين رضي الله عنهما، فسبه، فثارت إليه العبيد، فقال: مهلاً، ثم أقبل على الرجل فقال: ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى عليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسول.
سب رجل ابن عباس -رضي الله عنهما – فلما فرغ قال : يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها ؟ فنكس الرجل رأسه واستحى.المستطرف /201
وقال أبو ذر –رضي الله عنه- لغلامه : لِمَ أرسلت الشاة على علف الفرس ؟ قال : أردت أن أغيظك . قال : لأجمعن مع الغيظ أجرا أنت حرٌ لوجه الله تعالى[4].
وأسمع رجل أبا الدرداء – رضي الله عنه- كلاما , فقال : يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه .
قال الأحنف بن قيس –رحمه الله تعالى – لابنه : يا بني إذا أردت أن تواخي رجلا فأغضبه , فإن أنصفك وإلا فاحذره. المستطرف / 203 وروي ذلك عن لقمان -عليه السلام – كما في روضة العقلاء /91.
إذا كنت مختصا لنفسك صاحبا فمن قبل أن تلقاه بالود أغضبه
فإن كان في حال القطيعة منصفا وإلا فقد جربته فتجنبـــه
وقال محمد بن حماد الكاتب :
فأعجب من ذا وذا أنني أراك بعين الرضا في الغضب[5]
يقول ابن القيم : )الغضب سبع إن فككته بدأ بأكلك) ، لأنه يبعد العقل والدين عن سياستها للإنسان، فلا يبقى له معه نظر ولا فكر ولا اختيار، بل يعمى صاحبه ويصمه عن كل موعظة أو تذكرة، وتخرج أفعاله عن الترتيب، ويتعاطى فعل المجانين، ويكون شكله وصورته ساعة الغضب لا تعجبه لو رأى نفسه، ويصدر منه من الأقوال المحرمة والأفعال المحرمة ما لايستطيع الاعتذار عنها بعد ذهاب الغضب، بل قد تكون أوبقت دنياه وآخرته، كسبع أكل صاحبه.
يقول د.إبراهيم الراوي: ينصح علماء الطب النفسي الأشخاص الذين يتعرضون إلى نوبات الغضب إلى تمارين خاصة تؤدي إلى نتائج مذهلة، هذه التمارين تسبب استرخاء في الذهن يؤدي إلى انطفاء نار الغضب وإخماد الثورة العصبية، منها أن يعدَّ الشخص من 1-2-3 … وحتى 30 قبل أن ينطق بأي حرف. هذه الحقيقة في مجال الطب النفسي اكتشفها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم حين أمر الغاضب أن يتعوذ بالله عدة مرات وهذا واضح من مفهوم الآية الكريمة: (وإما ينـزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم )الأعراف الآية200 .
ومن هذا القبيل، دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الغاضب إلى السكوت وعدم النطق بأي جواب. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إذا غضب أحدكم فليسكت “رواه الإمام أحمد وحسنه السيوطي..
وتجنب الغضب يحتاج إلى ضبط النفس مع إيمان قوي بالله ويمتدح الرسول صلى الله عليه سلم هذا السلوك في حديثه .. ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب .. ولا يكون تجنب الغضب بتناول المهدئات لان تأثيرها يأتي بتكرار تناولها ولا يستطيع متعاطي المهدئات أن يتخلص منها بسهولة ولأن الغضب يغير السلوك فإن العلاج يكون بتغيير سلوك الإنسان في مواجهة المشكلات اليومية فيتحول غضب الإنسان إلى هدوء واتزان ..
إعجاز
جاء في كتاب هاريسون الطبي أنه من الثابت علمياً أن هرمون النور- أدرينالين يزداد بنسبة 2–3 أضعاف لدى الوقوف بهدوء لمدة خمس دقائق أما هرمون الأدرينالين فيرتفع ارتفاعاً بسيطاً في الوقوف لكن الضغوط النفسية تزيد من نسبته في الدم … ولا شك أن ارتفاع العاملين معاً، الغضب والوقوف يرفع نسبة هذين الهرمونين بشكل كبير.
وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ»[6].
فمن علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الهرمونات تزداد بالوقوف وتنخفض بالاستلقاء حتى يصف هذا العلاج ؟”… لا شك أنه وحي يوحى إليه عليه الصلاة والسلام.
لا تغضب …أمثلة
كان هناك طفل يصعب إرضاؤه , أعطاه والده كيس مليء بالمسامير وقال له : قم بطرق مسمار واحد في سور الحديقة في كل مرة تفقد فيها أعصابك أو تختلف مع أي شخص.
في اليوم الأول قام الولد بطرق 37 مسمارا في سور الحديقة.
وفي الأسبوع التالي تعلم الولد كيف يتحكم في نفسه وكان عدد المسامير التي توضع يوميا ينخفض.
اكتشف الولد أنه تعلم بسهوله كيف يتحكم في نفسه ,أسهل من الطرق على سور الحديقة
في النهاية أتى اليوم الذي لم يطرق فيه الولد أي مسمار في سور الحديقة
عندها ذهب ليخبر والده أنه لم يعد بحاجة إلى أن يطرق أي مسمار. قال له والده: الآن قم بخلع مسمارا واحدا عن كل يوم يمر بك دون أن تفقد أعصابك.
مرت عدة أيام وأخيرا تمكن الولد من إبلاغ والده أنه قد قام بخلع كل المسامير من السور. قام الوالد بأخذ ابنه إلى السور وقال له : بني قد أحسنت التصرف, ولكن انظر إلى هذه الثقوب التي تركتها في السور لن تعود أبدا كما كانت.
لا تغضب
وأختم كلامي عن الغضب بمقالة ظريفة وهادفة للدكتور عائض القرني مؤلف الكتاب الشهير “لاتحزن ” يقول فيها :أجمل وصية من الرسول صلى الله عليه وسلم وقد جاءه رجل غضوب فقال: أوصني، قال: «لا تغضب» فردد مراراً قال: «لا تغضب»، فالغضب خُلُق عدواني مدمّر يفتك بالشخصية. ما أسوأ الغضب وما أبشعه وما أمرّه! وإذا استولى الغضب على الإنسان شلَّ أخلاقه وأفسد ذوقه وأذهب مهابته وحلاوته وصار مكروهاً ممقوتاً مسخوطاً عليه مغضوباً عليه من الله ثم من الناس.
لا تغضب أيها الإنسان واصبر لحظات واكظم غيظك دقائق حتى تعود لك نفسك ويثوب لك رشدك وأنت سليمٌ من الانتقام معافى من القصاص.
لا تغضب أيها الإنسان حرصاً على عقلك وسمعتك وصحتك وأعصابك ودينك ومستقبلك، فالحياة أصلاً لا تستحق دقيقة واحدة من الغضب؛ لأنها زائلة زائفة تافهة.
لا تغضب أيها الإنسان؛ لأن مع الغضب أمراضاً مزمنة كالسكري والضغط والجلطة والنزيف والتّشنج والقلق والاضطراب.
لا تغضب أيها الإنسان فإن مَنْ كفَّ غضبه كفَّ الله عنه عذابه، فهنيئاً للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين.
ينبغي علينا في زحمة الحياة وصخبها أن نذكّر أنفسنا بكلمة واحدة نكتبها أمام أعيننا في بيوتنا ومكاتبنا تقول الكلمة: «لا تغضب» يكتبها المسئول والعالم والمدير والتاجر والموظف والزوج، وإذا استطعنا أن ننتصر على أنفسنا ونقهر غضبنا فسوف يقل القتل والخصام والشجار والطلاق والقطيعة والشحناء والبغضاء والأمراض والهموم والأحزان، وسوف ننعم بحياة ملؤها السلام والسعادة والأمن والسكينة، وصدق الله تعالى، حيث يقول: «وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ».
لهذا يوصى الرسول الكريم بتجنب الغضب ، فعندما سأله رجل النصح .. فرد عليه الرسول الكريم قائلا : ” لا تغضب “.. ثم أعاد عليه فقال : “لا تغضب”..
هذه هي “كلمة السر” التي تضمن لك العبور بسكينة وسلام ، وتمنحك الأمن والطمأنينة والسعادة، وتجنبك كثرة المشاحنات والانفعالات المدمرة. تذكرها ورددها دائماً: (لا تغضب).
زيادة من منتدى الإعجاز:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ»
وقال عليه الصلاة والسلام:” الْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ مِنَ الْغَضَبِ طَعَنَانًا فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَلَا تَرَوْنَ كَيْفَ يَذَرُ أَوْدَاجَهُ وَتَحْمَرُّ عَيْنَاهُ ؟” (رواه الإمام أحمد).
* استشاري طب وجراحة العيون، عضو الجمعية الرمدية المصرية.
[1] إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان /49
[2] اقرى الضيف 4 / 224 يتيمة الدهر 4/224 .
[3] صبح الأعشى 9/196 جمهرة الأمثال 1/356 الأغاني 12/250ونسبه لعبد الله بن معاوية الجعفري.
[4] البيان والتبيين 1/456 المستطرف /201 .
[5] قرى الضيف 5/44 صبح الأعشى 9/198 يتيمة الدهر 5/44
[6] مسند أحمد ط الرسالة (35/ 278)، سنن أبي داود (4/ 249)، صحيح ابن حبان (12/ 501)، عن أبي ذر.
مصادر يمكن الرجوع اليها فى هذا الموضوع :
1- ” قبسات من الطب النبوي ” ـ د. حسان شمسي باشا – مكتبة السوداي1992.
2- ” الغضب وأثره السيئ على البدن ” – د. محمود البرشة .
3- ” الحقائق الطبية في الإسلام “- د. عبد الرزاق الكيلاني.
4 – ” الحلم والغضب “- د. حامد الغوابي .
5- ” الانفعالات النفسية ” -د. إبراهيم الراوي – حضارة الإسلام م 15 ـ ع 7 ـ 1974
6-كتاب الغضب آداب وأحكام د. نايف بن أحمد الحمد.
7-كتاب الغضب للشيخ فوزي سعيد .
8-كتاب كيف تحمي نفسك من الغضب ؟.
9-موقع أسرار القرآن للمهندس عبد الدائم الكحيل
10-موقع بى .بى .سى . بالعربية.