د. يوسف محمد غريب*
مسجد قباء
مقدمة:
(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(1).
تأتي هذه الآية استطرادًا للحديث عن مسجد الضرار الذي أسسه المنافقون في المدينة بغرض إيقاع التفريق بين المؤمنين وتحقيق الضرر والفتنة. والبناء الذي أسس وإن كان مسجدًا ـ كغيره من المساجد ـ إلا أن أساس بنائه والغرض من إقامته لا يخفى منهما خبث المقصد وسوء النية.
وقد جمعت الآية في تصوير فني رائع بين المعقول والمحسوس، وشبهت المعنوي المفهوم بالمادي الملموس، فمن أسس بناءه بغرض ونية النفاق والكفر، كمن وضع أساس مبناه على شفا جرف هار، والنتيجة هي الانهيار المفاجئ والسريع للجرف والمبنى معًا.
وفي الآية إشارات هندسية إلى أساسات المباني وطبيعة البناء التي تحكم درجة صمود البنيان ومتانته أو تؤدي إلى انهياره، وتضمنت عدة إشارات تمس جانبا من علم ميكانيكا التربة والأساسات، في الهندسة المدنية والإنشائية، وبينت الآية وجها من أوجه الإعجاز الهندسي في القرآن الكريم يمكن استنباطه من المفاهيم والإشارات الهندسية التالية التي وردت في نص الآية:
الاستنباط الأول(2):
تناولت الآية عدة عوامل ذات تأثير فعال ومباشر في تأسيس أساسات المنشآت؛ فلفظة (أساس) معناها في اللغة أصل كل شيء، وأساس البناء مبتدؤه(3). وفي الهندسة: التأسيس والأساس هو العنصر الإنشائي الذي يستخدم لنقل الأحمال المؤثرة من البنيان إلى التربة أو الأرض.
وعند ذكر التأسيس والأساس: (.. أسس بنيانه..) لابد أن تكون هناك أحمال ناشئة من البنيان تستلزم إنشاء أساسات لها، وتستلزم اختيار نوع مادة الأساسات طبقًا لذلك. فعامل الأحمال المؤثر مأخوذ في الاعتبار أيضًا.
ولفظة (على) في قوله: (عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) لها معنيان هندسيان.
أحدهما يفيد أن نوع الأساس المختار هو الأساسات السطحية Shallow Foundation وليس الأساسات العميقة Deep Foundation لأنه لو كانت الأساسات عميقة لكان التعبير المناسب هو (في شفا) وليس (على شفا) فعامل نوع التأسيس ملحوظ ومأخوذ في الاعتبار.
وهذا المفهوم الهندسي يتطابق مع معنى الآية الكريمة حيث يكون الانهيار مؤكدًا عندما يكون الأساس سطحيٌّا وليس عميقًا.
وثانيهما أنها تفيد بعمق التأسيس، فلفظة (على) أفادت أن الأساس على السطح أي أن عمق التأسيس يساوي الصفر.
فلو أن الأساس على عمق من سطح الأرض لكان التعبير المناسب مثلا هو (بداخل شفا) فعامل عمق التأسيس مأخوذ في الاعتبار.
وهذا المفهوم الهندسي يتطابق مع معنى الآية حيث يكون الانهيار مؤكدا حين يكون الأساس سطحيا وعلى سطح الأرض مباشرة، لأنه إذا كان الأساس سطحيا، وكان على عمق من سطح الأرض ربما لا يحدث انهيار.
ولفظة (شفا) معناها في اللغة حافة(4)، وفي الهندسة لها مدلول يفيد بأنها المنطقة التي تبدأ من حافة الجرف وحتى نقطة بدء التصدع في الجرف والتي يحدث عندها شكل الانهيار نتيجة ميل طبقة الجرف، فعامل بُعد التأسيس عن حافة الجرف مأخوذ في الاعتبار.
وهذا المفهوم الهندسي يتطابق مع معنى الآية؛ فحتى يكون الانهيار مؤكدًا لابد أن يكون التأسيس داخل منطقة الشفا، لأنه لو بعد عنها قد لا يحدث انهيار.
ولفظة (جرف) في اللغة تعني (بئر) أو (حفرة)(5)، وفي الهندسة: الفجوة من الأرض قد تنشأ بفعل السيول، وبالتالي لابد أن نأخذ في الاعتبار تأثير المياه على الأساسات، وعلى تربة التأسيس.
وقد تنشأ هذه الفجوة بفعل عوامل التعرية، فلابد أن نأخذ في الاعتبار شكل جوانب الجرف ودرجة ميلها أي زاوية ميل الجرف، وتأثير الإجهادات على حوافها، وهذا المفهوم الهندسي يتطابق مع معنى الآية؛ لأنه كي يكون الانهيار مؤكدًا لابد أن يكون للجرف حافة وأن يكون التأسيس عليها.
ولفظ (هار) في اللغة قد تأتي بمعنى مشرف على السقوط(6)، وفي الهندسة تأتي بمعنى التربة القابلة للانهيار، فعامل نوع تربة التأسيس مأخوذ في الاعتبار.
وهذا المفهوم الهندسي يتطابق مع معنى الآية، فحتى يكون الانهيار مؤكدًا لابد أن تكون التربة ضعيفة وغير قابلة للتأسيس عليها.
لقد تضمنت هذه الآية الكريمة الإشارة إلى ثمانية عوامل، تمثل معايير أساسية في تأسيس الأساسات وهي:
1 ـ نوع الأحمال المؤثرة.
2 ـ نوع مادة الأساسات.
3 ـ نوع التأسيس (سطحي/ عميق).
4 ـ عمق التأسيس عن سطح الأرض.
5 ـ بُعد التأسيس عن الحافة.
6 ـ تأثير المياه على تربة التأسيس، وعلى الأساسات نفسها.
7 ـ زاوية ميل التربة.
8 ـ نوع تربة التأسيس.
ومن هذه المعايير يمكننا إثارة نقاط بحثية ودراسية جديدة تتعلق بالآية الكريمة، أو تأكيد ما هو معروف من مفاهيم.
الاستنباط الثاني(7):
ثمة إشارة هندسية في قوله تعالى (فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ)؛ فذكر (به) في الآية أعطى مدلولاً واضحًا ومحددًا لشكل وهيئة الانهيار، حيث إن الجرف انهار به البنيان، فالانهيار هنا ناشئ عن خلل في منطقة الجرف وليس في البنيان ذاته، وفي ذلك تعبير قرآني بليغ.
فالحق لم يقل (فانهار في نار جهنم) لأن المعنى في ذلك يحتمل التساؤل: أيهما الذي انهار؟ الجرف أم البنيان؟ فالفعل (انهار) يحتاج إلى فاعل مفرد مذكر، وكل من الجرف والبنيان مفرد مذكر….
وبناء على ذلك ففي قوله: (فَانْهَارَ بِهِ) دقة في التعبير القرآني تجعل المفهوم الهندسي واضحًا ومحددًا، نحو شكل الانهيار الحادث، فهو جاء نتيجة لانهيار الجرف وما عليه من بنيان، …
هندسيٌّا يجوز أن يكون الانهيار بسبب أي من هذه الاحتمالات، ولكن المراد من التشبيه هو توضيح الفرق بين من أسس بنيانه بنية التقوى من الله ورضوانه، ومن أسس بنيانه بنية النفاق والكفر، فمفهوم البنيان ثابت في الحالتين، ولكن الاختلاف في التأسيس، وبناء على ذلك، ففي قوله تعالى: (فَانْهَارَ بِهِ) دقة بليغة في التعبير وتجسيد كامل للمفهوم الهندسي بأن الانهيار يحدث بسبب الجرف الذي يتم عليه التأسيس، وتبعا لذلك ينهار المبنى المؤسس عليه، بينما (فانهار في نار جهنم) لا تجسد هذا المفهوم الهندسي.
الاستنباط الثالث(9):
من قوله تعالى: (شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ).
يمكن استنباط إشارة هندسية تمس تأثير شكل المرتفعات ونوع التربة في سقوط الأجسام، فالآية الكريمة وضحت ثلاثة عوامل مؤثرة في تحديد أقصى سرعة لسقوط الجسم، وبالتالي أكبر كمية حركة وهي ما يعرف بقوة الانهيار.
فالعامل الأول درجة الميل: فكلما كان الميل شديدًا كانت سرعة الجسم كبيرة. وأقصى سرعة نصل إليها حين يكون الميل رأسيًا ـ أي يصنع خط الميل 90 درجة مع المستوى الأفقي ـ وبالتالي فإن قوة الانهيار تكون أقصى ما يمكن واللفظة (جرف) توحي بهذا المفهوم الهندسي. فهي في اللغة تأتي بمعنى بئر أو حفرة. وفي علم المساحة الطبوغرافية قد تأتي بمعنى مرتفع أو منخفض.
… ومع عدم وجود قوى مقاومة ممثلة في الاحتكاك في جسم الجرف لأن حافة الجرف رأسية ـ فإن الجسم المنهار سيتحرك بعجلة تساوي عجلة الجاذبية الأرضية. وطالما أن الجسم يتحرك تحت تأثير وزنه وبعجلة تساوي عجلة الجاذبية الأرضية، فإنه يصل لأقصى سرعة له.
وحيث إن كمية الحركة تتناسب طرديٌّا مع مربع السرعة، فإن سقوط وانهيار الجسم (كمية الحركة) تصل لأكبر قيمة لها عندما تكون السرعة أقصى ما يمكن، وهو ما يحدث عندما يسقط الجسم من على الجرف.
…والفاء في قوله: (فَانْهَارَ) تدل على هذه السرعة، كما دل عليها التحليل الهندسي(10).
والعامل الثاني نوع التربة: فكلما كانت التربة التي يتكون منها الجرف (المرتفع) غير متماسكة، زادت سرعة وكمية حركة الجسم وازدادت قوة الانهيار. واللفظة (هَارٍ) توحي بهذا المفهوم الهندسي. فمعناها في اللغة: مشرف على السقوط ولكنه لم يسقط…
والعامل الثالث مكان تحميل الجسم: فكلما كان الجسم قريبا من حافة الجرف ازدادت السرعة وكبرت كمية الحركة لعدم تغيير زاوية الميل أثناء الانهيار. ولفظة (شَفَا) توحي بهذا المفهوم الهندسي….
وهكذا تتكامل الألفاظ الثلاثة في قوله تعالى.. (شَفَا جُرُفٍ هَار) لتجسيد المعنى وتصويره تصويرا فنيًا بشكل ملموس في الواقع.
والمفاهيم الهندسية المستوحاة من نص هذه الآية الكريمة أكسبت المشهد حركة وحيوية، فساعد الحس الهندسي على حضور الصورة ورسوخها في الذهن.
ومن هذا المفهوم الهندسي للآية يمكننا إثارة مفاهيم بحثية ودراسية، تمس الجانب التطبيقي في ميكانيكا التربة والأساسات، وهي تحديد وحساب قوى الانهيار في المنشآت، وتأثيرها على المنشآت المجاورة، والمفاهيم الهندسية الواجب وضعها في الاعتبار لتلافي حدوث هذه الانهيارات…
الاستنباط الرابع(11):
المعنى الهندسي لـ (شَفَا جُرُفٍ) يفيد بأنها الجانب من التربة المتآكل نتيجة السيول وليس لها ساند قوي. وعند قدوم السيل يجرف من الأودية التربة الرقيقة جدٌّا ليتجمع على طرفه فيصبح طينًا واهيًا.
ومن هذه المفاهيم يمكن إثارة نقاط بحثية ودراسية، حول أسباب عدم التأسيس على الحواف المنهارة، وكذلك على التربة التي تكونت نتيجة السيول.
خاتمة:
هذه أربعة آراء ومفاهيم مختلفة مستنبطة من نص الآية القرآنية، ويمكن إضافة مفاهيم جديدة، وأبعاد هندسية وغير هندسية لنص الآية نفسها، والآية تحتمل كل هذه المعاني، ففيها إشارات يتعايش معها مهندسو الأساسات في تجاربهم ودراساتهم وتصميماتهم.
______________________________
* وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.eajaz.org
الهوامش:
1 ـ سورة التوبة، آية (109).
2 ـ (إشارات هندسية في آيات قرآنية) ص 47 ـ المهندس مجد متولي غريب، دار المجد للدراسات والبحوث الهندسية ـ القاهرة.
3 ـ الأساس: أصل البناء وقاعدته، أي ما اتصل منه بالأرض (معجم محيط المحيط ـ مكتبة لبنان ناشرون ـ بيروت).
4 ـ الشفا: حرفُ كل شيء وَحَدُّهُ، ومنه في سورة آل عمران (وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنْهَا) معجم محيط المحيط (مرجع سابق).
5 ـ الجرف: الطرف الذي في حاشية النهر الذي أكله الماء فإنه يسقط كل ساعة بعض منه. معجم محيط المحيط (مرجع سابق).
6 ـ هار: انصدع ولم يسقط، فإذا سقط فقد انهار وتهور. محيط المحيط (مرجع سابق).
7 ـ (إشارات هندسية في آيات قرآنية)، ص 50 (مرجع سابق).
8 ـ سورة التوبة، آية (108).
9 ـ مضمون بحث بعنوان (العظمة الإلهية في الإشارات الهندسية) للمهندس عبدالحليم عوض الله هلال، دار المجد للدراسات والبحوث الهندسية ـ القاهرة
10 ـ مضمون بحث بعنوان (آية التأسيس في القرآن) المهندس حسن محمد محمود، دار المجد للدراسات والبحوث الهندسية. القاهرة.