د. هشام عبد الرحمن حسن عبد الرحمن*
ملخص البحث:
أمرنا الحبيب مُحمد صلى الله عليه وسلم بإطفاء المصابيح بالليل, وبعد سنوات عديدة من البحث العلمي حول تأثير الضوء على الإنسان والبيئة, قال العلم صدق رسول الإسلام, فإظلام المصابيح إعجاز نبوي يقي الإنسان وبيئته من التلوث الضوئي الذي ينشأ من التعرض الزائد للضوء في الليل.
النص المعجز:
حذرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم من خطر المصابيح إذا تركناها موقدة عند النوم وذلك في عدد كبير من الروايات, منها ما ذكر علة التحذير وهي الخوف من الاحتراق بنارها, ومنها ما جاء بدون ذكر لعلة الأمر بإطفاء المصابيح لتعم النصيحة والرحمة النبوية كل المخلوقات في كل زمان ومكان:
أولاً: الروايات التي ذكرت علة إطفاء المصابيح عند النوم (الخوف من النار):
كثيرة هي الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشأن نذكر بعضها القليل:
الرواية الأولى:
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا تَتْركوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُون) متفق عليه.
الرواية الثانية:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ اللَّيْلِ فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُم) رواه البخاري.
الرواية الثالثة:
عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفئوا السراج. فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح بابا، ولا يكشف إناء. فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا، ويذكر اسم الله، فليفعل. فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم) رواه مسلم.
ثانيا: الروايات التي لم تذكر علة اطفاء المصابيح عند النوم: ونذكر بعضاً منها:
الرواية الأولى:
حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ وَغَلِّقُوا الْأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ قَالَ هَمَّامٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرُضُهُ) رواه البخاري.
الرواية الثانية:
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا كان جنح الليل، أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئاً، وأطفئوا مصابيحكم) متفق عليه.
ثالثاً-ملاحظات حول الأحاديث (خصوصًا علة إطفاء المصابيح عند النوم):
لا نستطيع أن نقول أنه بانتهاء علة الخوف من الاحتراق بالنار المذكورة في بعض الروايات أننا نستطيع أن نترك العمل بالحديث عند التعامل مع المصابيح الكهربائية أو غيرها من وسائل الإضاءة الحديثة, لأن هناك روايات أخرى أتت على سبيل العموم لتشمل كل أنواع الإضاءة (أطفئوا المصابيح) و لتدل على وجود علل أخرى غير النار, والتي قد تظهر في المستقبل وليس لعلة النار فقط.
ومما يؤكد على صحة ما ذهبت إليه من أن لإطفاء المصابيح عند النوم علل أخرى غير النار كعلة الخوف من ضوئها, أن ظلمة الليل سنة كونية أكدت عليها الشريعة الإسلامية في أكثر من موضع ومنها قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً) 47 الفرقان, وعليه فالروايات التي أتت على سبيل العموم لتشمل كل أنواع الإضاءة (أطفئوا المصابيح), قد جاءت لتؤكد على أهمية تحقق الظلمة في الليل لغرض النوم ولأغراض أخرى سوف نبينها في هذا البحث بإذن الله تعالى.
كما أتى الأمر النبوي مرة بإطفاء النار ومرة بإطفاء السراج وأخرى بإطفاء المصابيح, ولا تعارض بينها لأنه في وقت وعصر المصطفى عليه الصلاة والسلام كان السراج أو المصباح على هيئة شعلة من النار (فتيلة توقد بالزيت). فحينما أراد النبي صلى الله عليه وسلم التحذير الخاص من الاحتراق من المصابيح استخدم كلمة النار, وعندما أراد تعميم التحذير من كافة أشكال الإضاءة التي تعتمد على النار وعلى غير النار استخدم صلى الله عليه وسلم كلمتي المصابيح والسُرُج, ومعروف أن كلمة مصباح تستخدم لكل ما يستضاء به قال تعالى {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ }الملك5. وكذلك كلمة سراج تستخدم للاستضاءة كما في قوله تعالى {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً }نوح16.
وإطفاء المصابيح أو السُرُج معناه تغطيتها عن الهدف الذي تضيئه بالإضافة إلى إخماد نارها إن كان لها نار.
رابعاً-الهدف من البحث:
سنركز في الأحاديث السابقة على نقطة واحدة ألا وهي إطفاء السُرُج أو المصابيح عند النوم, ومع أن هناك العديد من الآيات التي تتناول أهمية النوم والسكن في الليل عملاً بالسنة الكونية التي أجراها الله على عباده {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } يونس67, وقال تعالى {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } النمل86, وقال تعالى {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } غافر61, إلا أن هذه الآيات لم تنهانا عن التعرض لضوء السُرُج أو المصابيح عند النوم ليلاً, فقد ألتزم بالسنة الكونية فأنام بالليل وأعمل بالنهار, و لكن أحب النوم ليلاً في ضوء المصابيح, وأحب أن تكون كل شوارع المدينة مضيئة في الليل.
فجاء قول الله تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً) 47 الفرقان, ليؤكد على أهمية النوم في الظلام التام, فربط المولى تبارك وتعالى بين النوم السبات وبين جعله الليل لباسًا, ليدل على أهمية الظلمة التامة للحصول على النوم السبات, قال الطبري في تفسيره (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً) أي سترًا يستترون به كما يستترون بالثياب التي يكسونها.
ومع أن الآية السابقة بينت نعمة لباس الليل وأهمية هذه النعمة للنوم السبات, إلا أن هذه الآية أيضًا لم تنهانا صراحة عن قطع لباس الليل بضوء المصابيح, ولما كان الإسلام هو دين الكمال الذي يدل الناس على كل خير وينهاهم عن كل شر, فقد جاءت السنة النبوية المكملة للقرآن بالنهي الصريح عن التعرض للمصابيح عند النوم في الليل (أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ ), ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم لينهانا عن شيء إلا لعلمه بأن له من الأضرار العاجلة والآجلة أضعاف ما قد يحققه من النفع العاجل.
فهل أثبت العلم الحديث أن التعرض لضوء المصابيح في الليل له أضرار على الإنسان وبيئته, وما هي هذه الأضرار على الإنسان وبيئته, هذا ما سوف نتناوله في هذا البحث بإذن الله تعالى.
خامساً-الحقيقة العلمية:
يعتبر مصطلح التلوث الضوئي من المصطلحات الحديثة التي لم تكن في قاموس الإنسانية, وهو أحد أنواع الملوثات البيئية الحديثة التي تسبب فيها إنسان العصر الحديث, بسب الإسراف الزائد في استعمال الضوء الصناعي داخل وخارج البيوت, وفي تحويل ليل المدن إلى نهار صناعي, مما أثر سلبًا على الإنسان وبيئته.
فقد بدأت إضاءة الليل اصطناعياً بواسطة الكهرباء، تقلق طمأنينة الحياة, و تمزع لباس الليل الذي عهدته الكرة الأرضية منذ أن جعل الله الليل سكنًا والنهار نشورًا, وتعاقب الليل والنهار, وتآلفت الكائنات طبيعياً (وضمنها الإنسان) بهذا التعاقب الدوري، فسكنت الحياة ليلاً، وازدهرت بسعي أغلب الكائنات الحية على معاشها نهاراً.
ومع اكتشاف المصباح الكهربائي بدأ الخلل في ميزان التعاقب الدوري لليل والنهار, وتفاقم هذا الخلل حتى وصل ذروته في عصرنا الحديث بعد أن صمم الإنسان بجهل شديد على إنارة كافة البيوت والتجمعات السكنية بشكل مبالغ فيه. و بعد عقود من الاستعمال الغاشم للإنارة الصناعية, ظهر للإنسان أن الإنارة الكهربائية بالرغم من كل ما لها من منافع إلا أنها لا تخلو من المساوئ, وظهر مصطلح «التلوث الضوئي» Light Pollution لوصف الآثار السلبية المترتبة على أنواع الإنارة الاصطناعية على الإنسان وبيئته.
أضرار الافراط في الإضاءة
1 . أثر التلوث الضوئي على صحة الإنسان
أثبتت الأبحاث العلمية أن التعرض للضوء سواء الطبيعي أو الصناعي يزيد من نشاط الإنسان, وهذا من فوائد الضوء, ولكنها أثبتت أيضًا أن زيادة فترة التعرض للضوء لها أضرار على الإنسان, ومن هذه الأضرار:
أ: زيادة نوبات الصداع، والشعور بالإرهاق، والتعرض لدرجات مختلفة من التوتر، وزيادة الإحساس بالقلق.
من المعروف أن الإضاءة المفرطة تعتبر عاملاً مباشراً ومهماً في التعرض لنوبات الصداع النصفي الحاد. وفي إحدى الدراسات المسحية، احتل فرط الإضاءة المرتبة الثانية على قائمة الأسباب التي تؤدي لحدوث نوبات الصداع النصفي بين المصابين. بينما كان فرط الإضاءة هو السبب الرئيسي في الإصابة بنوبات الصداع النصفي بين 47% من بين جميع المصابين بهذا المرض. ولا تتوقف العلاقة بين الصداع وبين الإضاءة على درجة الشدة فقط، بل أيضاً على نوع الطيف الضوئي المستخدم، كما في حالات الاعتماد على الضوء الفلوريسنت (fluorescent light) بدلاً من ضوء الشمس. هذا الاختلال الطيفي، بالإضافة إلى شدة الإضاءة، يعتبران معاً عاملين مهمين في زيادة الإحساس بالإرهاق، وخصوصاً بين من يقضون ساعات طويلة في العمل تحت مثل هذا النوع من الإضاءة. نفس هذه الظروف الضوئية، تؤدي أيضاً إلى زيادة واضحة في معدلات الشعور بالقلق والتوتر. حيث أثبتت الدراسات الطبية بالفعل، وجود ارتفاع في معدلات التوتر بجميع أعراضه وعلاماته الطبية، بين العاملين في أماكن أو القاطنين لمنازل، تستخدم فيها إضاءة مفرطة، وخصوصاً من نوع الفلوريسنت.
ب: ارتفاع ضغط الدم
يعتقد العلماء أن ارتفاع ضغط الدم في هذه الحالات، ينتج بشكل غير مباشر من زيادة مستوى التوتر الذي يتعرض له المعرضون لفرط الإضاءة. فالمعروف أن زيادة مستوى التوتر، تؤدي إلى إفراز الجسم لهرمون الأدرينالين، والمسئول عن وضع الجسم في حالة من التأهب والاستعداد، من خلال تغيرات بيولوجية وفسيولوجية عديدة، مثل رفع ضغط الدم وزيادة ضربات القلب.
ج: تثبيط جهاز المناعة:
وجد بعض الباحثين (C. Haldar *, R. Ahmad 2009) أن الضوء يؤثر على جهاز المناعة من خلال تأثيره على العين ثم المخ ثم الغدة الصنوبرية (صورة 1), وكذلك من خلال نفاذية الضوء لسطح الجلد. حيث كلما زاد الطول الموحى زادت درجة النفاذية عبر النسيج البصري والنسيج الجلدي. كما وجد البعض الآخر ( C. Haldar *, R. Ahmad;2008) أن الخلايا الليمفاوية في الدم تنتج هرمون الميلاتونين الذي يقوم بتنشيط المناعة, وأن هذا الإنتاج يتأثر بالضوء, حيث يثبط الضوء الذي ينفذ من الجلد ويصل للخلايا الليمفاوية التي تسير في الدم قرب سطح الجلد قدرة هذه الخلايا على تكوين وإفراز الميلاتونين مما يؤدي الى نقص المناعة بطريقة غير مباشرة, كما وجدوا أن تعرض الجلد لفترت من الظلام يقوي من مناعة الجسم .
(صورة 1): رسم تخطيطي يوضح دور الضوء في تثبيط و إفراز هرمون الميلاتونين و تأثير هذا على الجهاز المناعي C. Haldar *, R. Ahmad 2009))
د: التأثير الضار للضوء على الجلد
وجد بعض الباحثين ( Mahmoud BH, et al:2008) أن للطيف المنظور من الضوء تأثير ضار على الجلد حيث يؤدي إلى احمرار الجلد وتبقعه والتدمير الحراري لخلايا الجلد وكذلك إنتاج الشوارد الحرة هذا بالإضافة إلى التدمير غير المباشر للحمض النووي في خلايا الجلد الناتج عن الأكسجين النشط . كما اثبت البعض الآخر (Andrzej Slominski,et al;2005) أن للضوء تأثير غير مباشر على الجلد من خلال تأثير الضوء على إفراز الميلاتونين حيث يتأثر الجلد بهرمون الميلاتونين الذي يقوم بدور هام في وظيفة الجلد الحيوية مثل دورة نمو الشعر, ولون الجلد, وتثبيط سرطان الجلد, كما يعمل على تثبيط تأثير الأشعة فوق البنفسجية التي تدمر خلايا الجلد, وله دور قوي كمضاد للأكسدة. ومن هنا تتضح أهمية فترة الظلام وعدم التعرض للضوء للحفاظ على الجلد وعلى الحمض النووي لخلاياه من التدمير بالشوارد الحرة. وبمساعدة الميلاتونين تبدأ عملية التنظيف من الشوارد الحرة والأكسجين النشط في خلايا الجلد الناتجة عن التعرض للطيف المنظور من الضوء. ليس هذا فحسب إنما فى تقليل الضرر الناتج من الأشعة فوق البنفسجية على الجلد التي يتعرض الإنسان لها نهارًا في ضوء الشمس.
هـ: نقص إفراز هرمون الميلاتونين (Melatonin)
يتم إفراز هرمون الميلاتونين بصورة طبيعية عند دخول الليل بواسطة غدة صغيرة في الدماغ تعرف باسم الجسم الصنوبري (Pineal body), هذه المادة تنتشر في الدم وتعطي الإنسان الإحساس بالنعاس. تفرز هذه المادة الكيميائية بانتظام لكن يعاني من نقصها كبار السن فنلاحظ أن نومهم مضطرب أكثر من صغار السن الذين تفرز عندهم هذه المادة بوفرة, حيث كلما تقدم الشخص في العمر قل إفراز هذه المادة. إن إفراز هذه المادة يبدأ مع بداية الظلام ويكون إفرازه بسيط ويزداد مع الزمن إلى أن يصل الإفراز ذروته حتى يحين موعد الصباح وتشرق شمس يوم جديد فيتناقص الإفراز بشكل حاد (صورة 2). و قد وجد أن إفراز هذه المادة يقل بالتعرض للضوء مما يساعد على السهر ويعرض الجسم لعدة أمراض.
(صورة 2): يزداد هرمون الميلاتونين في الليل و يقل في الصباح بشكل حاد
سادساً-أهمية هرمون الميلاتونين للجسم:
1. أهمية الميلاتونين كعلاج لاضطرابات النوم :
وجد بعض الباحثين (Reiter RJ, Korkmaz A; 2008) و (Shadab A. Rahman, et al; 2009 ) أنه عند تعرض الإنسان للضوء يتم تثبيط إفراز هرمون الميلاتونين, حيث تنتقل استجابة شبكية العين للضوء عبر العصب البصري حتى يصل إلى الغدة الصنوبرية التي تقوم بدورها بتثبيط إفراز الميلاتونين مما يؤدى إلى اضطرابات النوم التي من الممكن علاجها بإعطائه لهؤلاء المرضى.
2. أهمية الميلاتونين للجسم كمضاد للأكسدة :
وجد بعض الباحثين ( Dominique Bonnefont-Rousselota,b, Fabrice Collin 2010) أن الميلاتونين يعتبر من مضادات الأكسدة القوية حيث ثبت أن قدرته تفوق بمعدل خمس مرات قدرة فيتامين سي وهذه درجة تجعل تصنيفه من أقوى مضادات الأكسدة المعروفة. كما أن طبيعته تسمح له بالمرور خلال حواجز الخلايا لذلك يستطيع تقليل التدمير الناشىء عن الأكسدة الناتجة من العمليات الحيوية في الخلية . وبالإضافة لقدرته كمضاد للأكسدة يقوم هو أيضًا بدور غير مباشر وذلك بتنظيم عمل الإنزيمات المضادة للأكسدة.
3. أهمية الميلاتونين للمخ :
وجد بعض الباحثين ( Olcese JM et al; 2009) أن الميلاتونين يقلل من حدة مرض الزهايمر و يبطئ من تقدمه, كما وجد البعض الآخر ( Juan C. Mayo et al;2005) أنه ضرورى للوقاية من مرض الشلل الرعاش وكذلك في تحسين فاعلية العلاجات للمرضى .
4. الميلاتونين مسكن للآلام :
وجد بعض الباحثين ( Mónica Ambriz-Tututi,2009) أن الميلاتونين يعتبر مسكنًا للآلام حيث يقلل من الإحساس بالألم من خلال العديد من آليات التفاعلات البيوكيميائية مثل التنشيط غير المباشر لمستقبلات المورفين, وتقليل افراز المواد المسببة للالتهابات بالإضافة إلى عمله كمضاد للأكسدة. ولذلك تتضح أهمية النوم في الظلام لمن يعانون من أمراض ينتج عنها أي نوع من الآلام .
5. الميلاتونين والوقاية من السرطان:
أظهرت بعض الدراسات الحديثة ( David E. Blask 2008) أن العمال في الفترات المسائية والمتعرضين للضوء الصناعي هم الأكثر تعرضًا للإصابة بالسرطان وكذلك لنقص المناعة. كما أظهرت الأبحاث الحديثة ( Pauley SM.2004) أن تثبيط الميلاتونين بالتعرض للضوء ليلاً قد يكون سببًا في زيادة معدلات سرطان الثدي والقولون .
وقد وجدت العديد من الدراسات و منها ( Sánchez-Barceló EJ, et al;2003)
و( Joo SS, Yoo YM et al; 2009) أن تأثير الميلاتونين المضاد للسرطان يأتي من طبيعته كمضاد للأكسدة, بالاضافة إلى قدرته على التأثير المباشر على الخلايا السرطانية حيث يثبط الميلاتونين السرطان من خلال التداخل في عدد من المسارات البيوكيميائية, وقد وجد أنه في سرطان الثدي يقوم بدور مباشر على خلايا السرطان كمضاد طبيعي للإستروجين, وفي سرطان البروستاتا يؤدي إلى موت الخلايا السرطانية المبرمج مبكرًا .
سابعاً- أثر التلوث الضوئي على البيئة
كما تأثر الإنسان بالتلوث الضوئي تأثرت بيئته أيضًا, فهناك العديد من الآثار السلبية للتلوث الضوئي على البيئة ومنها:
أ: اختفاء نجوم السماء
لعل أول المتضررين من الإنارة الليلية هم هواة الفلك وعلماؤه, إذ يسمح ظلام الليل لهم بمراقبة مريحة لأفلاك الفضاء, أما مع الإنارة الليلية فتبدو السماء صفراء اللون ولا تظهر غالبية النجوم بالعين المجردة. وكذلك تعرقل الإنارة عمل ملاحي الفضاء في التصوير الالكتروني للسماء.
فالتلوث الضوئي يقضي على إمكان رؤيتنا الواضحة للسماء الواسعة المزينة بالنجوم والكواكب {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ }الصافات6، و أصبح من الصعب الاهتداء بالنجوم في ظلمات البر والبحر {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }النحل16, كما أصبح من الصعب رؤية هلال الشهور العربية بالعين المجردة والمراصد الفلكية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}البقرة189, وبسب الإضاءة الجائرة للمصابيح التي تحيل ظلام الليل إلى نهار أُجبر الفلكيين على أخذ مراصدهم ومغادرة المدن.
ب: الكائنات الحية غير الإنسان
في بحث جديّ أوضحت نتائجه مجلة “ناشيونال جيوجرافيك” ألقي الضوء على ما يعرف بظاهرة “التلوث الضوئي” وآثارها السلبية على كل الكائنات, فأظهرت نتائجه بأن المخلوقات الحية لم تكن بأحسن حالاً من الإنسان, فقصتها السلبية مع التلوث الضوئي لا تقل خطورة عما يحدث للإنسان.
فالعديد من أنواع الأسماك والكائنات البحرية تفقد حياتها وحياة صغارها بسبب التلوث الضوئي، سواء الموجودة بالقرب من شواطئ المسطحات المائية العملاقة، كالمحيطات والبحار المفتوحة، أو تلك الأضواء الموجودة تحت سطح الماء في القاع، لدواعي التنقيب عن ثروات طبيعية أو انتشال حطام سفينة أو طائرة استقرت بسبب الحوادث، في مملكة الكائنات البحرية.
هناك أنواع من الكائنات البحرية، مثل السبيط “كلماري” وثعبان البحر، وأنواع من السلاحف البرمائية، والحوت الأزرق، جميعها – وبطريقة فطرية – تأخذ في الدوران بسرعة عالية حول البقع الضوئية في قاع البحار، حتى يحدث لها نوع من الدوار الحاد يتسبب فوراً في نفوقها، الأمر الذي يهدد الثروة السمكية والبحرية، بالإضافة لتلوث قاع البحار، الذي لا ينقذه إلا تجديد ذاته تلقائياً حسب ما هو معروف في علم البحار.
أما طيور البطريق والطيور المهاجرة, فلها مع الأضواء قصص مأساوية، فطيور البطريق، الذكر منها، يضع صغيره بعد أن تلده الأم، تحت تجويف طبيعي في بطنه من الخارج وفوق قدميه، وإذا تعرض الصغير لتلوث ضوئي فإنه ينفق سريعاً، لأنه يحيا في نسبة ظلام طبيعية تفرضها المناطق الثلجية القطبية، التي بدأ الإنسان الوصول إليها وتخريب قوانين الطبيعة فيها.
أما هجرة الطيور للتزاوج، وقطع مئات الأميال من مكان لآخر في العالم، فتخضع لنظام البوصلة الطبيعية التي زودها الله سبحانه وتعالى بها، كنوع من الإعجاز في الخلق، وهذه البوصلة الطبيعية التي تحدد اتجاه الطيران لهجرة هذه الأسراب من الطيور، تفقد فاعليتها بالأضواء الساطعة عند معابر القارات وفوق المسطحات المائية، فتكون النتيجة نفوق أسراب هائلة من الطيور المهاجرة، مما يترتب عليه انقراض بعض أنواعها.
أيضاً تصمت حناجر الطيور المغردة، مثل ما يعرف بـ”الطيور السوداء” ذات الحنجرة الرائعة التي تصدر نغمات طبيعية مغردة، وطيور “العندليب” التي لها القدرة على تنغيم الصوت الموسيقي الطبيعي الصاعد تلقائياً من حنجرتها الواسعة، فهذان الطائران لا يغردان إلاّ وسط الظلام، ليكتمل الإعجاز بالصوت والصورة معاً، فالأضواء الشرسة الصاخبة تخرس أصوات هذه الطيور للأبد، وتنتهي حياتها بعيداً عن الطبيعة والفطرة التي خلقت عليها.
أيضاً تتأثر مملكة الحشرات بالتلوث الضوئي، لأنها تعيش في الظلام النسبي لاصطياد الحشرات الأخرى، وبعض من النباتات التي تقتات عليها، فالضوء نذير بالخطر لكل ما تأكله الحشرات، بحيث تهرب فرائسها، وبالتالي تنقرض الحشرات مثل أنواع من النمل المتسلق والفراشات كبيرة الحجم، أيضاً تقل نسبة تكاثرها الذي يتم في الظلام الهادئ.
كما أن الأضواء الصاخبة تقلل من نسبة الخصوبة لدى ذكور التماسيح، والخرتيت “وحيد القرن”.
والبحث جارٍ حالياً حول مدى تأثير أضواء النيون الساطعة على نسبة التبويض لدى السيدات، وعلى صحة وحيوية الحيوانات المنوية لدى الرجال، فقد أثبتت الباحثة “ريتش” بأن قوة الضوء الصناعي تُحدث خمولاً في بعض الوظائف الحيوية للإنسان والحيوان معاً.
كما تأثر النبات بفعل التلوث الضوئي، لأن الأضواء المباشرة على الأرض تمتص الرطوبة الطبيعية التي تحفظ للأرض سلامتها، وبالتالي تقل نسبة الأراضي الصالحة للزراعة والزهور والاخضرار.
ج: كيف تغلب التشريع البشري على الآثار الضارة للضوء:
بعد أن تنبهت البشرية إلى مخاطر التلوث الضوئي بدأت جميع دول أوروبا وأمريكا وغيرها من بلدان العالم المتحضر في سن القوانين والتشريعات التي من شأنها أن تحمي الإنسان وبيئته من أضرار الإضاءة الليلية الزائدة, وتهدف هذه التشريعات إلى عدم التبذير في استهلاك الكهرباء ليلاً، والتقليل من الهالة الضوئية المنطلقة من المدن، والتي تعيق رؤية النجوم ليلاً. وتمنع هذه التشريعات استعمال نوع من مصابيح الإنارة العمومية التي تنطلق أشعته إلى الأعلى, مع استعمال مصابيح فيها سقف يعكس الضوء نحو الأسفل، مما يساهم في اقتصاد الطاقة وتقليل هالة الضوء المنطلقة نحو الفضاء. ويسعى القانون إلى تحديد نسبة درجة الإنارة التي لا يمكن تجاوزها.
ومن الغريب أن دول العالم الإسلامي وحتى لحظتنا هذه ما تزال تسرف في استخدام الإضاءة ليلاً بالرغم من التحذير النبوي الصريح (أطفئوا مصابيحكم إذا رقدتم بالليل).
ثامناً-وجه الإعجاز العلمي في قول النبي صلي الله عليه و سلم (أطفئوا مصابيحكم عند الرقاد):
إن دقة الحديث النبوي في رواياته العديدة التي تناولت إطفاء المصابيح, والتي تمثلت في الإطلاق والتقييد والتعميم والتخصيص قد غطت كل الأبحاث العلمية التي تناولت هذا الموضوع من كل جوانبه بشكل يذهل العقل. فلو تعرض بحث لضرورة النوم في الظلام ليلاً نجد أن هناك رواية تؤيد هذا وإن تناول بحث آخر أهمية التواجد في فترة من الظلام بصفة دورية دون التقيد بالنوم في هذه الفترة نجد من الروايات ما يؤيد ذلك وإن تناول بحث آخر النوم في أي فترة من اليوم دون الليل لكن في الظلام نجد من الروايات ما يؤيد ذلك. لكن المجمع عليه من كل الروايات والواضح منها هو إطفاء السراج أو النار أو المصابيح في الليل, و هو الموافق لتعريف التلوث الضوئي على أنه زيادة الإضاءة في الليل.
الأحاديث التي جاءت بصيغ العموم دون تحديد لسبب الأمر بإطفاء المصابيح, ولا تحديد الضرر المترتب على بقائها موقدة, شملت كل أنواع الضرر الذي قد يصيب الإنسان أو بيئته من جراء التلوث الضوئي, و كلما اكتشف الإنسان من أضرار جديدة للمصابيح, جاءت اللفظة المعجزة (أطفئوا مصابيحكم) لتعم هذا الضرر. ولذلك فان علماء المسلمين حين قصروا العلة من إطفاء المصابيح على النار, فقالوا لو زالت هذه العلة فيجوز ترك المصابيح منيرة, نقول لهم في عصرنا الحديث صرنا نعلم أن أضرار المصابيح (الإضاءة) لا تقف عند حد النار وفقط, بل قد تتجاوزه إلى صحة الإنسان وبيئته من خلال التلوث الضوئي, ولذا نقول بحول الله و قوته بأن الأخذ بظاهر الأحاديث التي فيها تعميم دون تقييد بالروايات التي ذكرت علة الحرق بالنار أولى, لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفهم وأفقه لأضرار الإضاءة (المصابيح) من أقوال علماء المسلمين, وبالتالي فإن العمل بسنة إطفاء المصابيح عند الرقاد تظل باقية إلى قيام الساعة طالما أننا نكتشف أضرار جديدة للإضاءة غير النار, و طالما أنها موافقة للسنة الكونية التي أرادها رب البرية للكرة الأرضية فقال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً) 47.
قبل أن تعرف البشرية مصطلح التلوث الضوئي في العصر الحديث, وقبل أن تبدأ البشرية في سن القوانين التي تحمي الإنسان وبيئته من التلوث الضوئي, جاء التشريع الإسلامي على لسان النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى, ليحمي البشرية من مخاطر المصابيح الظاهرة على عهده (كالاحتراق بنارها) والخفية التي لم تحدث في عهده (كالتلوث الضوئي), فقال صلى الله عليه وسلم (أطفئوا مصابيحكم إذا رقدتم بالليل), ولا يمكن للعقل السليم أن يشك ولو للحظة بأن هذا من كلام البشر, فلماذا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بهذا الأمر وهم لم يسألوه عنه, ولماذا يغير من عادة العرب في إضاءة المصابيح في الليل وهم لم يشتكوا له من ضررها, ولماذا يتطرق إلى مسألة دنيوية يمكن بحثها بالعلم التجريبي, ولو ثبت خطأه لما صدقه أحد, ولكن لأنه نبي مرسل لا ينطق عن الهوى و لا يتكلم إلا بالوحي فقد سبق كل التشريعات البشرية ووضح الحل الجذري لمشكلة بيئية خطيرة لم يراها على زمنه بكلمات قليلة لو أحسن تدبرها كل الباحثين في مشكلة التلوث الضوئي, والمشرعين للحد من أضرارها لقالوا جميعًا, صدق رسول الإسلام الرحمة المهداة إلى العالمين, فإظلام المصابيح عند الرقاد إعجاز نبوي يقي الإنسان وبيئته من التلوث الضوئي الذي ينشأ من التعرض الزائد للضوء في الليل.
الخاتمة:
إن ما أتينا به هنا ليس إلا على سبيل المثال لا الحصر فأهمية التعرض للظلام أثناء اليوم ما هو إلا موضوع تنبه له العلم حديثًا وهذا مما يتضح هنا من الأبحاث التي تناولته. وقد يتكشف مستقبلاً من الفوائد ما قد لا يتاح حاليًا. وهذا يدفعنا لدعوة العلماء لإجراء الأبحاث حول هذا الموضوع من جوانب عدة وأهميته على صحة البشر وبيئته. وهنا عظمة الإسلام الذي لا يكتفي بإثبات الأبحاث العلمية الدالة على الإعجاز إنما أيضًا في الاستفادة مستقبلاً من توجيه الأبحاث إلى طريق يختصر كثيرًا من الجهد والمال للوصول إلى نتائج مفيدة لحياة الإنسان. وسبحان الله العلي العظيم الذي أخبر نبيه الكريم هذا الأمر اللازم لوقاية الإنسان من أضرار كثيرة لم يكشف عنها العلم إلا حديثًا.
________________________
* باحث في الكيمياء الحيوية. الإشراف العلمي: د. محمود عبد الله نجا (مدرس بكلية طب المنصورة). وللراغبين بمتابعة البحث بكامل مراجعه الأجنبية العودة إلى الموقع: www.quran-m.com
المراجع :
القرآن الكريم، تفسير الطبري، صحيح البخاري، صحيح مسلم، فتح الباري شرح صحيح البخاري، فتح القدير شرح الجامع الصغير للمناوي، موطأ مالك، سنن ابن ماجه، سنن الترمذي .