بقلم: فرانسيسكا دو شاتِلْ*
جاء في الحديث النبوى: “ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”[1].
الواقع أن القول بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلام) رائد من رواد الحفاظ على البيئة سوف يقع في آذان الكثيرين في البداية موقعًا غريبًا، إذ لا شك أن مصطلح “الحفاظ على البيئة” وما يرتبط به من مفاهيم مثل “البيئة” و”الوعي البيئي” و”ترشيد الاستهلاك” هي ألفاظ من اختراع العصر الحديث، أي مصطلحات صيغت لتواجه الاهتمامات المتزايدة بالوضع الراهن لعالم الطبيعة من حولنا. ومع ذلك فإن قراءة الأحاديث النبوية عن قرب، أي تلك الروايات المتعلقة بالأحداث الهامة في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلام)، لَتُرِينا أنه كان واحدًا من أشد المنادين بحماية البيئة. بل إن بمستطاعنا القول إنه كان في نصرته للبيئة سابقًا لعصره، أي رائدًا في مجال المحافظة على البيئة والتطور الرشيد والإدارة الحكيمة للموارد الطبيعية، وواحدًا من الذين يَسْعَوْن لإقامة توازن متناسق بين الإنسان والطبيعة. وبالاستناد إلى ما أوردته لنا الأحاديث من أعماله وأقواله يمكننا القول بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلام) كان يتمتع باحترام عميق لعالم النباتات والأزهار وأنه كان على صلة حميمة بعناصر الطبيعة الأربعة: التراب والماء والنار والهواء. ولقد كان من الدعاة الأقوياء للاستخدام الرشيد للأرض والماء واستثمارهما، وكذلك المعاملة الكريمة للحيوانات والنباتات والطيور، والحقوق المتساوية لمن يتعاملون معها من البشر. وفى هذا السياق فإن حداثة رؤيته للبيئة وحداثة المفاهيم التي جاء بها في هذا المجال لما يَشْدَه العقل شَدْهًا، حتى لتبدو بعض أحاديثه وكأنها مناقشات عصرية حول قضايا البيئة.
المبادئ الثلاثة:
إن فلسفة رسول الله (صلى الله عليه وسلام) البيئية هي أولاً وقبل كل شيء فلسفة شاملة مترابطة، إذ تقوم على أن هناك صلة أساسية وارتباطًا متبادلاً بين عناصر الطبيعة، كما أن نقطة انطلاقها هي الإيمان بأنه إذا أساء الإنسان استخدام عنصر من عناصر الطبيعة أو استنزفه استنزافًا فإن العالم الطبيعي برُمّته سوف يضارّ أضرارًا مباشرة. على أن هذا الاعتقاد لا يُنَصّ عليه في حديث واحد نصًا مباشرًا، بل يمثل بالأحرى المبدأ الذي تنهض عليه جميع أقوال رسول الله (صلى الله عليه وسلام) وأفعاله. إنه فلسفة حياته التي على ضوئها نستطيع أن نبصر ملامح شخصيته.
إن أهم ثلاثة مبادئ في الفلسفة المحمدية المتعلقة بالطبيعة تقوم على تعاليم القرآن ومفاهيم الوحدانية وخلافة البشر والثقة في الإنسان. ويمثل التوحيد حجر الزاوية في دعوة الإسلام، وهذا التوحيد يراعى الحقيقة التي تقول بوجود خالق واحد للكون وأن الإنسان مسؤول أمامه عن أعماله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{120}} (سورة المائدة).
ويقر رسول الله (صلى الله عليه وسلام) بأن علم الله وقدرته يشملان كل شيء، ومن ثم كانت الإساءة إلى أي مخلوق من مخلوقاته، سواء كان كائنًا حيًا أو مصدرًا من مصادر الطبيعة، ذَنْبًا من الذنوب يجازَى الإنسان عليه. وفى اعتقاده أن جميع مخلوقات الله متساوية أمامه سبحانه، وأن الحيوانات، وكذلك الأرض والغابات وينابيع المياه، ينبغي أن يكون لها حقوق تُحْتَرَم.
أما مفهوما الخلافة البشرية في الأرض والثقة في الإنسان فينبعان من مبدأ الوحدانية. ويوضح القرآن أن الإنسان يتمتع بوضع متميز بين مخلوقات الله على الأرض، إذ اصطفاه ليكون خليفة فيها وينهض بمسؤولية العناية بغيره من مخلوقات هذا الكوكب. وهذا واجب كل فرد فينا ووجه تميُّزه، ومحل الثقة به. ورغم هذا نرى القرآن مرارًا وتكرارًا ينهى الإنسان عن الكِبْر منبهًا إياه إلى أنه ليس أفضل من سائر المخلوقات:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ{38}} (سورة الأنعام).
وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلام) يؤمن بأن الكون بما فيه من مخلوقات: حيواناتٍ كانت هذه المخلوقات أو نباتاتٍ أو مياهًا أو أرضين، لم تُخْلَق لتكون للبشر. صحيح أن لهم الحق في استخدام موارد الطبيعة، إلا أنهم لا يمكنهم أن يتملكوها تملُّكًا. ومن هنا ففي الوقت الذي يسمح الإسلام للإنسان بحيازة الأرض نراه يضع حدودًا لذلك: فعلى سبيل المثال يمكنه أن يحوز الأرض فقط طالما كان يستعملها، لكنه ما إن يكفّ عن هذا الاستعمال حتى يصبح واجبًا عليه التخلي عن هذه الحيازة.
ويعترف رسول الله (صلى الله عليه وسلام) بمسؤولية الإنسان أمام ربه، بيد أنه كان دائمًا وأبدًا يدعو إلى التواضع، ومن ثَمّ نراه يقول: “إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة فليغرسها”[2]، فهو هنا يبين أنه، حتى عند انتفاء كل أمل لدى البشر، على الفرد أن يحافظ على نمو الطبيعة. لقد كان مؤمنًا بأن الطبيعة حسنة في ذاتها حتى لو لم يستفد البشر منها.
وبالمثل نراه يحض أتباعه على التشارك في موارد الطبيعة، إذ يخاطبهم قائلاً: “المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار”[3]. كما يعد حرمان العطشان من الماء إثمًا يعاقَب عليه: “من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة”[4]. والواقع أن موقف رسول الله (صلى الله عليه وسلام) تجاه الاستعمال الرشيد للأرض والمحافظة على الماء والطريقة التي كان يعامل بها الحيوانات هو دليل آخر على التواضع الذي يصبغ فلسفته حول البيئة.
الاستخدام الرشيد للأرض:
“جُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا”[5]. في هذا الحديث يؤكد رسول الله (صلى الله عليه وسلام) الطبيعة المقدسة للأرض أو التربة، لا بوصفها ذات طهارة فحسب، بل بوصفها مادة مُطَهِّرة كذلك. ويَظْهَر أيضا هذا الاحترامُ للأرض في شعيرة التيمم التي تجيز للمسلم استعمال التراب في الطهارة الواجبة عند الصلاة في حالة فقدان الماء.(…) ولم يشجع رسول الله (صلى الله عليه وسلام) فقط الاستعمال الرشيد للأرض، بل لفت أنظار أتباعه أيضًا إلى المكاسب التي يجنيها الإنسان من إحياء الأرض البور، إذ جعل زرع شجرة أو غرس بذرة أو سَقْى أرض عطشى من أعمال البر والإحسان: “من أحيا أرضًا ميتة فله فيها أجر”[6]. وعلى هذا فأيما شخص ساق الماء إلى قطعة أرض قاحلة فهي له.
المحافظة على الماء:
في البيئة الصحراوية الخشنة التي كان يعيش فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلام) يُعَدّ الماء مرادفًا للحياة، فهو نعمة من الله، بل هو أصل الحياة كما يشهد بذلك القرآن:{وجعلنا من الماء كل شيء حي{30}} (سورة الأنبياء). ويذكِّر القرآن المسلم على الدوام بأنه خليفة الله في الأرض، لكن لا ينبغى له مع ذلك أن يأخذ الأشياء المخلوقة على أنها أمرٌ مسلَّمٌ به:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ{68-70}} (سورة الواقعة). كذلك كان الاقتصاد في الماء والمحافظة على طهارته قضيتين مهمتين عند رسول الله (صلى الله عليه وسلام). (…). وحتى عندما يكون الماء متوفرًا نراه ينصح بالاقتصاد في استعماله. ومن ذلك نهيه عن غسل أعضاء الوضوء أكثر من ثلاث مرات حتى لو كان المتوضئ على نهرٍ جارٍ[7]. ويضيف البخاري قائلاً: “وكره أهل العلم الإسراف فيه وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم”. وبالمثل نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلام) عن تلويث المياه، وذلك بمنع التبول في الماء الراكد.
معاملة الحيوانات:
يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلام): “من قتل عصفورًا فما فوقها بغير حقها سأل الله عز وجل عنها يوم القيامة”[8]. وهو حديث يعكس إجلال رسول الله (صلى الله عليه وسلام) واحترامه وحبه للحيوانات. ذلك أنه كان يعتقد أنها، بوصفها خلقًا من خلق الله، ينبغي أن تحظى بمعاملة كريمة، ففي الأحاديث النبوية عدد ضخم من الروايات والتوجيهات الخلقية والقصص التي ترسم لنا صورة عن علاقته بالحيوانات. وبعض هذه القصص ترينا أنه كان يهتم اهتمامًا خاصًا بالإبل والخيول: فهما في رأيه نعم الرفيق في الأسفار والحروب، كما كان يجد كثيرًا من الراحة والحكمة في صحبتهما حسبما يقول لنا الحديث التالي: “الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة”[9].
وحتى في ذبح الحيوان نجده يبدى قدرًا عظيمًا من الرقة والمرحمة. وعلى الرغم من أنه لم يكن نباتيًا فإن الأحاديث تبين لنا بوضوح أنه كان حساسًا للغاية تجاه معاناة الحيوانات حتى لكأنه كان يشاركها ألمها مشاركة وجدانية. ومن هنا نجده يأمر باستعمال سكين حاد في الذبح واتباع طريقة مسؤولة من شأنها أن تزهق روح الحيوان سريعًا بحيث يخف ألم الذبيحة إلى أقصى درجة ممكنة. كما نهى عن ذبح أي حيوان أمام غيره من الحيوانات أو إحداد الشفرة بحضرته، وإلا فكأنه قد ذبحه مرتين حسبما جاء فى حديثه لمن كان يُحِدّ شفرته فى حضور ذبيحته، إذ قال له مستنكرا: “أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟”[10]. لقد كان يكره ذلك كراهية شديدة.
وختامًا:
نقول إنه من المستحيل إيفاء المدى الذي بلغته فلسفة رسول الله (صلى الله عليه وسلام) البيئية، وكذلك الأهمية التي تستأهلها، حقهما فى هذه المقالة القصيرة، فرؤيته الشاملة للطبيعة وفهمه لمكان الإنسان داخل العالم الطبيعي هما رؤية وفهم رائدان في مجال الوعي البيئي لدى المسلمين. وللأسف فإن الانسجام الذي دعا إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلام) بين الإنسان وبيئته قد تم تجاهله في أيامنا هذه إلى حد بعيد. وفى الوقت الذي نواجه فيه آثار التلوث والإسراف في استخدام موارد الطبيعة والتصحير وشح الماء في بعض الأماكن في العالم مع المعاناة من الفيضانات والعواصف في غيرها من الأماكن ربما يكون من الملائم بالنسبة لنا جميعا: مسلمين ونصارى ويهودًا وهندوسًا وبوذيين وملاحدةً أن نأخذ ورقة من كتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلام) ونواجه الأزمة البيئية الحاليّة بجِدٍّ وحكمة.
وتضيف مجلة الإعجاز على هذا البحث الرصين ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحافظة على كل ذي روح: “دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت.” (أحمد في مسنده ومتفق عليه [البخاري ومسلم] وابن ماجة عن أبي هريرة.) و” بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فاستقت له به فسقته فغفر لها”.(“زيادة الجامع الصغير”، للسيوطي عن أبي هريرة).
* صحفية هولندية وكاتبة طليعية ومتخصصة في أنثروبولوجيا الثقافة الإسلامية. ترجمها عن الإنجليزية د. إبراهيم عوض. للراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.55a.net
[1] رواه الإمام أحمد في مسنده ومتفق عليه [البخاري ومسلم] والترمذي عن أنس.
[2] “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها”. (“فسيلة”: أي نخلة صغيرة) رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في الأدب عن أنس.
[3] رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود.
[4] رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمرو.
[5] “فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون”. صحيح مسلم والترمذي عن أبي هريرة.
[6] رواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي وابن حبان في صحيحه والضياء عن جابر.
[7] سنن ابن ماجه…أَن رَسُول اللَّه صَلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَمْ مر بسعد، وَهُوَ يتوضأ. فَقَالَ (مَا هَذَا الإسراف؟) فَقَالَ: أفي الوضوء إسراف؟ قَالَ (نعم. وإن كُنْت عَلَى نهر جار).
[8] “من قتل عصفور بغير حقه سأله الله عنه يوم القيامة”. رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمرو.
[9] رواه الإمام أحمد في مسنده ومتفق عليه [البخاري ومسلم] والنسائي وابن ماجة.
[10] وجدت في: كتاب “زيادة الجامع الصغير”، للسيوطي. “أتريد أن تميتها موتات هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها”. عن ابن عباس.