باسم وحيد الدين علي
“لكل شيء تاج، وتاج القرآن سورة آل عمران” (حديث شريف)
تُطرح في كل سورة قضية أساسية تتفرع بعدها إلى فقرات دقيقة تفصيلاً وتحليلاً وتدليلاً لتعود وتجتمع في نهاياتها عند الخلاصة والحلول لهذه القضية الأساسية المطروحة. وإذ ذكرنا في العدد الماضي من “الإعجاز”، مغزى سورة البقرة والغاية منها، فقد حان فهم سورتها الزهراء الشقيقة وهي سورة آل عمران.
سميت السورة باسم آل عمران وهم جذور سيدنا عيسى المسيح عليه السلام، تكريماً لهم، وللدلالة على شرف نسب السيد المسيح المتحدر من أصل طيّب ومن عائلة مؤمنة تقية ورعة من بني إسرائيل، حملت الرسالة وحافظت على الأمانة التي ضيعها الأحبار من قومه. فاصطفى الله تعالى هذه الأسرة وحمّل خيرة أبنائها، زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، المهمة الأشرف على وجه الأرض وهي تبليغ الرسالة الإلهية.
قال الله تعالى فيها: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}.
كان ذلك العصر صعباً للغاية، فقد قست القلوب ونزعت الرحمة منها، وعلا صوت المصالح على صوت الضمير، وباع الأحبار دينهم بعرض من الدنيا قليل، وبلغ ببني إسرائيل أن قتلوا النبي تلو النبي، وأوغلوا في التوراة تقطيعا وتحريفا وتبديلا، مما جعل مهمة الرسل الثلاثة غاية في الخطورة وقد دفع اثنان منهما حياته ثمناً لذلك وكاد الثالث أن يطاح به.
وفي ذلك يقول الله تعالى في أوائل هذه السورة:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)}.
كان هؤلاء الرسل الحجة الأخيرة على بني إسرائيل قبل ان ينزع من تلك الأمة شرف حمل الدعوة إلى الله ويحكم عليهم بالطرد واللعن وبالغضب الإلهي.
إنه الربط التاريخي لتتالي الأمم وللدلالة على أن الأمة التي تعرِض عن دين الله تستبدل بمن هو للدعوة أهل وبالرسالة أعلم وأحرص. وبأن بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو لاستكمال ما بلغه سيدنا عيسى عليه السلام. وفي ذلك يقول الله تعالى في هذه السورة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}.
وبانتقال الرسالة من أمة إلى أمة تظهر هذه السورة القواسم المشتركة الإيجابية بينهما، كما تظهر أسباب التخلي الإلهي عن الأمة السابقة وتنبه إلى أن الأمر ليس بهذه السهولة وأن الامتحانات سوف تترى بعد ذلك، بعضها في العقيدة وفي النية وبعضها الآخر ميداني تبذل فيه الأنفس وتقدم التضحيات.
فمن رحمة الله تعالى وحبه مع علمه وقدرته سبحانه، يخبرنا من بداية الطريق أنه سيمتحننا في مواطن كثيرة خلال الطريق إليه، ومن عدله أرشدنا ان الامتحان سيميز الخبيث من الطيب فلا يتذاكى أحد عليه ولا يستخفي أحد منه ولا يضمر ما لا يظهر فهو يعلم السر وأخفى وستظهر معادن الناس بسهولة من خلال الامتحانات القادمة فيقول:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}.
ثم يعلمنا كيف نستعين به ونسلم بما أمر لكي نتخطى مثل هذه الاختبارات فيقول:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}.
ثم يعلمنا ربنا طرق النجاة من تجارب الدنيا ومحنها؟ وكيف النجاح في الامتحان الإلهي والفوز في الدنيا والآخرة؟ بأن ندع القلوب تخبت عند خالقها وتسلم العقول له انقيادها وتذعن الجوارح لما أمر به أو نهى عنه. وهذا ما اشترطه الله على عباده في هذه السورة:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران].
والقرآن الكريم ليس كتاباً للتاريخ بل هو كتاب اعتبارٍ وهداية، فجعل في هذه السورة للأمة التالية وهم العرب موعظة ودروساً في التضحية أعطى فيها آل عمران المثل والقدوة. كي يعلم المسلمون بعيد غزوة أحد أنه لا بد لمن تشرّف بحمل العقيدة الإلهية من تقديم التضحيات. فيقول سبحانه مشجعاً: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)}.
ويحذر المنافقين والذين في قلوبهم مرض من الفتنة ومن العقاب فيقول: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}.
وينبه المؤمنين ألا يقعوا في فخ الدنيا كما حدث لبني إسرائيل من قبل: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} [آل عمران].
وتخلص السورة كلها إلى ندائين: واحد لأهل الكتاب : {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199). ثم نداء آخر للمؤمنين:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) }.