أ.باسم وحيد الدين علي*
بسم الله الرحمن الرحيم
لم يتوقف إعجاز القرآن اللغوي عند إعجاز المعاني والإعجاز البياني فحسب، بل تعداه إلى إعجاز آخر، خفي عموماً وفتح الله تعالى به خصوصاً على بعض أئمة المسلمين وعلمائهم، وهو إعجاز التناسب فيما بين الآيات المتتابعات وفيما بين السور المتتاليات.
ويردّ هذا الإعجاز على انتقاداتٍ وتساؤلات، منها: لماذا لم يُبقِ النبي صلى الله عليه وسلم على الترتيب الذي نزلت به السور والآيات على قلبه؟ وقد أجاب العلماء من السلف الصالح على هذا السؤال وأمثاله، فقد تنزل القرآن الكريم على قلب النبي الأكرم: (بحسب التدريج لموافقة المصالح في أوقاتها وتقريبه للأفهام على ما له من العلو حتى صار ذكراً للعالمين)، على حد قول الإمام البقاعي في تفسيره المسمى ” نظم الدرر”.
لكن السؤال الذي لا يزال يُطرَح بعد أن عاد القرآن مرتباً كما كان، وكما هو بين أيدينا اليوم: هل هناك سياق واضح للآيات المتتالية أي هل هناك ترابط وترتيب بين الآيات في السورة الواحدة ؟
ففي إعجاز الآيات المتتاليات قال القاضي أبو بكر بن العربي في مؤلَّفه “سراج المريدين” : (ترتبط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسعة المعاني منتظمة المباني).
ويقول الإمام الرازي : (ومن تأمل في لطائف نظم سورة البقرة، وفي بدائع ترتيبها، علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه، وشرف معانيه، فهو أيضاً بسبب ترتيبه ونظم آياته).
ولنستعرض سياق الآيات في بعض السور علّ الأمر يتبدى ويتوضح؟
لنأخذ مثلاً، سورة النجم على سبيل الاستدلال، فنجد أن أول آية منها قوله تعالى{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}، قد ارتبطت بآخر آية من السورة التي سبقتها وهي سورة الطور بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}، وهو ارتباط لفظي، أما في المعنى فنجد أن التهم التي سيقت بحق النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الطور، بأنه كاهن وساحر ومجنون، جاء الرد عليها في مطلع السورة اللاحقة : {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}.وبذلك نجد أن الآيات المذكورة قد تحقق فيها الارتباطان اللفظي والمعنوي معاً.
ودون التحدث عن الترابط الجلي بين الآيات في سورة يوسف كونها تورد سيرة النبي المذكور صلى الله عليه وسلم، دعونا ننتقل إلى سورة الواقعة مثلاً فنجد أنها من بدايتها إلى نهايتها، تبحث في مسألة أساسية واحدة، هي انقسام الناس إلى فئات ثلاث بحسب استجابتهم للدعوة إلى الله: “السابقون المقربون” و”أصحاب اليمين” و”أصحاب الشمال”. ويخطيء من يظن أن فيها أفكاراً خارجة عن الموضوع، إذ إنها تفنّد أداءَ كلٍ من الفئات الثلاث وعقائدَهم وأحوالَهم ومآلَهم. فتبدأ السورة بتعدادهم وأعمالهم وأقوالهم، وتنتهي بثواب كل منهم وجزائه، فيقول الله تعالى:
فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ {88} فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ {89} وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {90} فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {91} وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ {92} فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ {93} وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ {94} إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ {95} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ {96}
ولنأخذ مثلاً آخر وهو سورة النبأ وهي أربعون آية، نجدها تتحدث عن النبأ العظيم وهو يوم القيامة بهوله وعظمته وعن مشاهده الواحد تلو الآخر ومن الطبيعي أن تتضمن مثل هذه المواقف الخطيرة عتب الخالق الحنان المنان على الذين وهبهم فنسوه وأعطاهم فأنكروه، فقال: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا {6} وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا {7} وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا {8} وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا {9} وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا {10} وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا {11} وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا {12} وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا {13} وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا {14} لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا {15} وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا {16} إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا {17}.
ثم يصف القرآن انقسام الناس بين طاغين ومتقين ليصل بهم إلى الحساب حيث يجازى المؤمنون ويكرمون، ويزجر الكافرون ويسجرون، ويتمنون يومذاك لو تسوى بهم الأرض ويكونون ترابا. فتجيب الآيات الأخيرة على الآيات الأولى من السورة {عم يتساءلون، عن النبأ العظيم} بقوله تعالى: ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا {39} إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا {40}.
ونأتي إلى سورة الكهف وهي مئة وعشر آيات، ومن نظر إليها جزافاً، اعتقد أنها مفككة المواضيع متعددة الطروحات، أما من نظر فيها وأعمل العقل والقلب وجد طرحاً واحداً وخطيراً وإعجازاً هاماً وجديرا. فنجد في هذه السورة المباركة أربع قصص رئيسية: فتية الكهف المؤمنين، وصاحب الجنتين، ثم موسى والخضر عليهما السلام، ثم ذي القرنين القائد الصالح، وفيما بينها عدد من الأمثلة والحكم والعبر.
لنتدبر في بادئ الأمر كل قصة على حِدَى، ثم نبحث بعد ذلك عن الصلة التي تجمع بينها:
خلاصة قصة أهل الكهف إعداد المؤمن منذ سنّ الفتوّة وغرس الايمان اليانع في قلب الفتى اليافع، فهذا عمر الإعداد والتلقي. ولنتذكر أن أكثر أصحاب النبي الأوائل كانوا في سن المراهقة حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام. ولنعلم أن التلقي في سن مبكرة يغور في الأعماق ولا يترك للضلال فسحةً للعبث. وعندما يستيقظ بقية الرجال ليعوا مسؤولياتهم ويشرعوا في استدراك ما فاتهم يكون أولئك الفتيان قد شبوا على الهدى وامتلأوا علمًا ويقينًا وتفوقوا في الإدرااك والعطاء والانتاج.
ثم ينبّه المولى تعالى إلى خطري النفس والشيطان على إيمان العبد، فصاحب الجنتين هو رجل أنعم الله عليه، فانشغل بالنعمة عن المنعم، وغرّته نفسه حتى قادته إلى الاعتقاد بأنه هو الرزاق وليس الله تعالى، ففقد الصلة بالله وبالناس، فهلك الزرع والضرع. ثم يحذرنا الله تعالى من الشيطان وفسقه، ويسأل الله تعالى الناس محذراً: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا {50}.
ومن قصة موسى والخضر عليهما السلام نتعلم بالتفصيل أدب المتعلم مع معلمه وصبره وطاعته وانقياده، كما نتعلم أن طلب العلم لا يتوقف، وبما أنه على الأنبياء واجب، فهو على العلماء والرؤساء والقادة وسائر الناس أوجب. وأن العلم يؤتى، وأن فوق كل ذي علم عليم وأن العلوم درجات وكذلك المعلمين وأن الدرجة العليا هي حين يكون الكتاب هو القرآن والمعلم هو الرحمن. وبدون معلم لا يمكن الوصول إلى فهم الحكمة الإلهية من كل أمر نصادفه أو نسمع به.
ومن قصة ذي القرنين نفهم دور الحاكم القوي الصالح الذي يحكم بأمر الله، وفق شرع الله فيعدل ولا يظلم، ويُعِين ولا يستأثر.
والآن نسأل ، ما هو هدف السورة، وأين الصلة والترابط بين القصص الأربع فيها؟
والجواب، أن هذه السورة تهدف فيما تهدف إلى تعليم الأمة بأسرها أسباب النصر والسيادة، حسب المهام والمراحل التالية:
فعلى الأمة أن تبدأ في المرحلة الأولى بتعليم فتيانها، والسهر على نشأتهم نشأة إيمانية صالحة وأن توجههم إلى فقه دينهم ودنياهم، وفي المرحلة الثانية تهتم بتزكية افرادها وتدريبهم على مخالفة النفس والتواضع والتضحية، وتوظيف الطاقات والإمكانات لخدمة دين الله، وفي المرحلة الثالثة تعنى بإعداد المتفوقين منهم في العلم كما في التقوى. وفي هذه المرحلة يوكل أمر النخبة إلى معلمين من النخبة يتحلّون بالأدب والحلم والاحترام والطاعة ليكملوا فقه العلوم وأسرار الاحكام الشرعية. وهذه النخبة تصبح فيما بعد الأمينة على أمور الدنيا والدين.
وفي المرحلة الرابعة يتم اختيار الأصلح من هذه النخبة ليتسلم مقاليد الحكم والسلطة فيحكم بما أمر الله ويكون حقًا خليفة الله في أرضه مصداقًا لقوله تعالى {إني جاعل في الأرض خليفة}.
وأما الخلاصة العامة من هذه السورة فقد ذكرها المولى تعالى في ختامها بقوله: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} أي لا خلاص للفرد ولا للجماعات ولا للأمم إلا بالاعتراف بالله الواحد وبالاستجابة لما دعا إليه وبالاستقامة على الصراط الذي فرضه. فالسورة إذاً هادفة، مترابطة، محكمة الضبط، متسلسلة الوقائع، لم تجتمع فصولها عبثاً ولم تسرد كيفما اتفق، فهي تنزيل الحكيم العليم.
نسأل الله تعالى أن يمتعنا الله بقراءة القرآن الكريم كما ينبغي فهماً وتدبراً ، وأن يوفقنا وإياكم لصحبة العلماء الأجلاء الذين يعرفون كيف ينقلون إلينا ما فتح الله عليهم من ثمرة تدبر القرآن و محبة الرسول وطاعة الرحمن، والحمد لله رب العالمين.
_______________________________________
*عضو الهيئة الإدراية لمنتدى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في لبنان