أ.باسم وحيد الدين علي
التشريع هو سن القوانين والأحكام التي تنظم أمور الناس فتبين لهم حقوقهم والواجبات. والشرع في اللغة هو الماء الواسع الظاهر الذي يقصده الناس فيشربون ويستقون، ولذلك أطلق الله تعالى هذه التسمية على قوانينه وأحكامه، لأن الشرع ضروري كالماء لحياة الناس وفيه سعة وواضح للعيان. وشرعُ اللهِ تعالى واحدٌ منذ عصر نوح، لقوله تعالى في سورة الشورى { شرع لكم من الدين ما وَصَّى به نوحاً..}، ثم جعل لكل رسولٍ طريقةً للوصول إلى الشرع بحسب مفاهيم عصره، فقال في سورة المائدة: { لكلٍ جعلنا شِرْعة ومنهاجاً..}، ثم خصَّ سيدنا محمداً بشريعة، والشريعة تصغير للشرعة، لكنها لا تكون عند العرب شريعة إلا إذا كان ماؤها وفيراً ظاهراً للعِيان، يكفي حاجة الجميع بلا استثناء، فشريعة محمد صلى الله عليه وسلم توجز، على غزارتها الشرائع المعتمدة سابقاً، قال الله تعالى في سورة الجاثية { ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها}.
ونقصد بالإعجاز التشريعي إظهار جوانب تفوق مجموعة التشريعات والأحكام التي سنّها الله تعالى في القرآن، وهي خارقة للعادة مقرونة بالتحدّي أظهرها الله تأييداً لدعوى الإسلام والنبوة، مع عجز الفكر البشري عن التبصر مسبقاً بمقاصدها أو الإتيان بمثلها، ثم أثبتت الأيام أنها الشريعة الأصلح والأقوم لما فيه خير الأفراد والمجتمعات.
أفلا يعجب قاريء القرآن حين يجد أن كثيراً من تفاصيل العبادات وأحكامها ليست موسّعة فيه؟ وأن الله تعالى قد عهد إلى نبينا صلى الله عليه وسلم بتفصيلها والدلالة عليها، إذ لم يرد عن الصلاة سوى الحض عليها والترهيب من تركها، وأنها خمس صلوات دون تعداد ولا تسمية ولا كيفية ، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلي”، وصار يعلم الناس أحكام الصلاة ويصحح أخطاءهم فيها. وجاءت أحكام الزكاة كذلك قليلة، أوضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمها بالتطبيق. وكذلك أحكام الحج، مما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القول: “خذوا عني مناسككم”.
أما فيما يتعلق بالتشريع، فقد تضمن الكتاب الكريم من التفاصيل الدقيقة ما يدفع إلى التعجب وإلى التساؤل، لم هذا الشمول وهذا التدقيق؟ من أحكام الفرائض أي المتعلقة بالميراث، إلى الوصية ، إلى الشهود، وحتى حين يحتضر المسافر، إلى أحكام الطلاق، والرضاعة والنسب، إلى كتابة العدل، إلى أحكام البيع والتجارة، إلى كفارات اليمين والنذور والظهار والعتق والصدقة والدَّيْن، وإمهال المدين، وصولاً إلى التشدد في تحريم شرب الخمر والربا، وفي النهي عن أكل أموال الناس بالباطل. قال تعالى في سورة الأنعام: {ما فرّطنا في الكتاب من شيء}، وقال عز وجل في سورة البقرة: { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين}.
وهنا يظهر الإعجاز الأول في التشريع الإسلامي، الذي ينظم العلاقات الأسرية والاجتماعية المدنية، بما يحفظ الحقوق ويحدد الواجبات، بل يكاد يقدسهما، وبذلك يؤمّن الحد الأدنى من الاستقرار في المجتمع، بأوامر إلهية ونصوص قرآنية مفصلة ودقيقة، لا تدع مجالاً للتأويل ولا للتهرب من تطبيق الشرع ولا للالتفاف عليه. تحفظ لكل إنسان حقوقه المدنية بالعدل والمساواة دون النظر إلى دينه أو عرقه أو مكانته الاجتماعية.
الإعجاز الثاني هو في ديمومة هذا التشريع، ومعنى ذلك أن هذه القوانين لا تزال تطبق منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة، بحيث رضي كل من يرث بما ورِث، والتزم بما أوجبه عليه شرع الله من واجبات.
الإعجاز الثالث هو في مدة صلاحية التشريع الذي لم يمسه التعديل منذ أن أنزل وعلى الرغم من تطور الحياة واختلاف الحضارات والعادات والتقاليد وحتى العقليات بين الشعوب والأمم. ولا نجد مجموعة قوانين أخرى في العالم إلا وتعرضت لكثير من التعديل إن لم تكن قد انقرضت وصارت من التاريخ.
الإعجاز الرابع هو في مرونة التشريع فكيف له ذلك وهو الذي لا يمس ولا يحتاج إلى تعديل ، وهنا نتوقف قليلاً لشرح هذه الناحية فالشرع الحنيف يمتاز بصلابة خطوطه العريضة الأساسية في الوقت الذي يفتح فيه المجال للاجتهاد في المسائل التفصيلية وفي الحالات الاستثنائية.
الإعجاز الخامس، هو في ما حققه هذا التشريع على مر الأيام من أمان واستقرار في العلاقات بين الناس، بالرغم مما مر بالأمم من ويلات وحروب، وما يرافقها عادة من فوضى وظلم وفساد، وقد أدت المخيفة من الله وما وقر في قلوب المسلمين من توقير لأوامر الله ومن احترام لشرع الله تعالى، إلى حفظ الحقوق والقيام بالواجبات حتى ولو غاب الشرطي الرقيب أو الموظف الحسيب، وما فرطت أمة بمثل هذه الحقوق إلا وانتهى أمرها إلى زوال. ولا يحتاج الأمر إلى دليل، فالأمة الإسلامية لا تزال تتعرض منذ مئات السنين لمحاولات العلمنة والتغريب والتفرقة والتقسيم وهي مع ذلك صامدة بفضل عقيدتها الراسخة وتمسكها بتطبيق قواعد الشرع الحنيف.
الإعجاز السادس هو في موافقة التشريع القرآني لمكارم الأخلاق، ليس في تنفيذ الأحكام فقط بل فيما يتخطى التنفيذ بسلوكيات أقرب إلى عالم المثل منها إلى ما يعرفه الغرب والشرق ويطبقونه، فها هو القرآن الكريم يخاطب الراغب بالطلاق أن يكون التفريق بإحسان لتلطيف مرارة هذا القرار الصعب فيقول تعالى في سورة البقرة: وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {237}.
وهاهو الكتاب الكريم يناشد ولي الدم أن يتعطف مع ترك الخيار له في أخذ حقه فيقول تعالى في سورة الإسراء: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا {33}.
وها هو يناشد الدائن بالصبر على المدين دون المساس بحقه في المطالبة في الوقت المتفق عليه فيقول في سورة البقرة: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {280}.
ولا يتعب أحدنا نفسه في الدفاع عن أي نظام تشريعي آخر فلن يجد إلا أنظمة وقوانين مقيِّدة ومتصلبة لا مكان فيها للأعذار ولا للإمهال ولا للاسترحام.
يضاف إلى هذا الإعجاز في مكارم الأخلاق موافقة التشريعات القرآنية للفِطرة والعقول المستقيمة، فما غلّبت هذه التشريعات جانباً على حساب جانِب آخر، وليس فيها غُـلوّ أو إفراط أو تفريط، بل أشبعت كل النزعات المادية والروحية والعاطفية والجنسية بشكلٍ متوازنٍ يُحَقِّقُ المصلحة الحقيقية للإنسان كفرد وكمجتمع وكدولة؛ لذلك وصف الله تعالى دينه بأنه دين الفطرة، فقال في سورة الروم: {فأقمْ وَجْهَكَ للدينِ حنيفاً؛ فطرةَ الله التي فَطَر الناسَ عليها لا تبديلَ لخلق الله ذلك الدينُ القيِّمُ ولكنّ أكثرَ الناس لا يعلمون}.
ولما حاولت دول غربية فرض بعض القوانين الفرعية لمراعاة الأخلاق والآداب العامة عجزت عن التطبيق، لأنها اكتفت بالقشرة ولم تبلغ اللب وهو إطاعة الناس للأمر الإلهي وليس لأوامر بعضهم البعض. ومن ذلك محاولة الولايات المتحدة تحريم الخمور في الثلاثينات من القرن العشرين، وإباحة الطلاق في الولايات المذكورة، ومنع إسبانيا للنساء من التعري على شواطئها، والمطالبة المستمرة في الغرب بتعدد الزوجات. وقد اعترف زعماء فرنسيون بعيد الحرب العالمية الثانية، بأن أحد أسباب الهزيمة يرجع إلى الانغماس في الشهوات والإسراف في المفاسد والفتن. ناهيك عن فشل النظامين الاقتصاديين الشيوعي والرأسمالي في معالجة الأوضاع الاقتصادية على المستويين الفردي والجماعي، في وقت شهد التشريع الإسلامي نجاحات باهرة في تاريخه عندما كان ولاة أمور المسلمين يطبقونه بتمامه.
تحتاج كل آية من آيات التشريع التي وردت في القرآن الكريم، إلى شرح مفصل يظهر إعجازها في عالم القوانين المعروفة في عصرنا، ومن هذه الآيات الآية التي تنظم حقوق الدائن والمدين، وهي الآية 282 من سورة البقرة ،الأطول في القرآن العظيم نظراً لخطورة العقود ودقتها.
كذلك فإن من الآيات المعجزة آيات الإرث والتي دخلت في أدق التفاصيل وأعطت كل ذي حقٍ حقه، وأثبتت الأيام أنها كانت سبباً وجيهاً من أسباب استقرار الأسر ودوام العلاقات الطيبة وحفظ مستقبل الورثة الشباب وتأمين عيش كريم للورثة المسنين، وقد ذكر فضيلة الشيخ أمين الكردي أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية، أنه عثر في أرشيف أمانة الإفتاء على رسائل في الفتيا كان قد طلبها رجال دين من مختلف الطوائف اللبنانية لحل مسائل معقدة في الإرث، لم تجد حلاً إلا عبر الشرع الحنيف. وصدق الله العظيم القائل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا.
ولأن الإعجاز يتطلب شهادة عالمية بذلك من أهل الاختصاص، فيكفي أن نذكر أن مؤتمرات حقوقية عالمية سبق أن عقدت واعترفت بأهمية التشريع الإسلامي، وتقدمه، ومن هذه المؤتمرات: مؤتمر القانون المقارن في مدينة لاهاي في جمادى 1356 هـ ـ ) آب/أغسطس 1937)، ومؤتمر المحامين الدولي في مدينة لاهاي (15 إلى22 آب/أغسطس1948 )، ومؤتمر في كلية الحقوق من جامعة باريس (2/7/1951) تحت عنوان: أسبوع الفقه الإسلامي…
وفي دراسة للدكتور محمود أحمد الزين يقول: ترى هل يعقل أن تكون حاجة كل قوانين الدنيا إلى التعديل مستمرة رغم اعتمادها على الدراسات القانونية الجامعية، وعلى أنواع شتى من هذه الدراسات، وعلى مشاورات كثيرة لأعضاء اللجان المتخصصة في الدراسات التشريعية، بينما يستغني التشريع الإسلامي عن التعديل إلا ضمن قواعده وأحكامه ثوابته ، مع أنه جاء به رجل أمي في بلد أمي في أمة أمية ، أيعقل ذلك إلا إذا كان الذي جاء به رسولاً مؤيدًا من عند الله تعالى .
وفي الخلاصة عندما ينظر أي عاقل ومتخصص إلى التشريع القرآني، يعلم تمام العلم أن الذي سنّ هذه الأحكام عليم بكوامن النفوس وعليم بحاجة كل صاحب حق، كي تستقر حياة الناس ويسود الأمان بينهم، ويتماسك المجتمع ولا تثور الأحقاد، سواء غاب الحاكم أم حضر، ولا يتجاهل هذا الإعجاز إلا جاهل أو مكابر. ومن أراد أن يستزيد فليسأل أهل العلم والقانون المستنيرين مسلمين وغير مسلمين، والله تعالى يقول في سورة فاطر: إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء.