أ. باسم وحيد الدين علي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
عرضنا في العدد الماضي من “الإعجاز” عددا من الأمراض النفسية البسيطة والمتوسطة التي تعتري عددًا كبيراً من الناس علموا بذلك أم لم يعلموا. ونحاول اليوم أن نعرض للأمراض النفسية الأكثر عمقاً وطرق علاج بعضها.
لا تصبح الأمراض النفسية عادة خطيرة بصورة فجائية إلا ما ندر حين يتعرض الانسان لحادث جلل. فهي تتطور وتتدهور بصورة تدريجية إذا لم يلاحظ صاحبها أو المقربون منه هذا التدهور. وكل مرضٍ صحي أو نفسي يتم اكتشافه باكراً يجعل معالجته ممكنة إجمالا. وهذا حال الأمراض التي ذكرناها في العدد الماضي والتي لا يتم استدراكها قبل استفحالها. ومنها الخوف والقلق والحزن، والضياع.
والضياع هنا مرض شائع يتنبه إليه بعض المقربين وقلة من المصابين، فمن الناس من يعتبر وجوده في هذه الدنيا نقمة، ويعيش بذلك حياة تعيسة لا أمل منها، ومنهم من يرى من وجوده فرصة لا تعوض ولن تتكرر ولا يؤمن بالحياة الآخرة ولا بنعيمها الدائم، فينغمس فيها إلى درجة التيه حتى إذا انهالت عليه المصائب اعترته الصدمة تلو الصدمة، مما يدخله في حالة من الذهول واليأس والحزن لا تقل خطراً عن الحالة البائسة الأولى لمن يعتبر وجوده نقمة.
ومن اعتاد قراءة القرآن الكريم يجد المعالجة متوفرة، وبدون طبيب اللهم إلا إذا كان بحاجة لمن يشرح له العبارة والعبرة، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} [آل عمران].
إذ الانسان ليس كيانا منعزلاً لا في الزمان ولا في المكان ورباطه بمن سبق وبمن حوله وبمن سيأتي، يضعه في موقف ذهني متوازن ويجعله يعيد حساباته من نفسه ومن الناس. وبذلك يحقق منتهى الواقعية والموضوعية. مما يدفعه للمزيد من التحصيل المادي والمعرفي والروحي.
ومن الأمراض الخطيرة والتي تبدو لأول وهلة غير ذات بال، مرض الخوف او الخجل من الاحتكاك بالناس ومن علاماته الأولى حب الانعزال والانطواء والتردد، وقد عالج الكتاب الكريم ظاهرة الخوف من المواجهة بين طرفين، فأوعز لمن يتعرض للناس أن يعتصم بالله وأن يتحلى بالصدق والاستقامة فيقول في سورة الإسراء : وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا {80} وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا {81}. مما يمنح المؤمن ثقة بالله تزيده ثقة بنفسه وتعزز شخصيته.
وعند الحديث عن الأمراض الأخطر لا بد من لفت النظر بأن الأمراض النفسية تكمن في أعماق الانسان لفترة من الزمن قبل أن تطفو على السطح على شكل قلق أو حزن أو انفجار مفاجيء تحدثه صدمة إضافية أو أزمة طارئة. ومن المعروف أن تراكم التوترات النفسية يودي بالإنسان إلى إصابته بالانهيار العصبي المعروف بعبارة depression.
لذلك يدعونا القرآن الكريم إلى معالجة الأزمة مباشرة أو تخطيها عبر تقبل ما حصل والرضى بما قُسِم، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة البقرة: “وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” {216}.
ومن المهم أن يتجاوز المرء آثار الأزمة الحالية قبل أن تتراكم فوقها آثار الأزمات اللاحقة وفي ذلك يقول الله تعالى: إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا.
من هنا نفهم أن نسبة المرضى النفسانيين في الغرب، على تحضره، تبقى مستمرة بالارتفاع، يقول الرحمن في أمثالهم في سورة الزخرف: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {36}.
ولا عجب إذا وصل عدد كبير منهم إلى درجة الإقدام على الانتحار، فهي نتيجة الابتعاد عن الإيمان والاطمئنان، مصداقاً لقوله تعالى في سورة الحج: وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ…، وهذا هوالوصف الدقيق الذي يشعر به المريض المكتئب المنهار، بحيث يرى نفسه تتهدم على بعضها البعض وتهوي في مكان سحيق لا قعر له، بينما يبدو المؤمن والمؤمنة أكثر اطمئناناً وهدوءاً وابتساماً وثقةً ممن سواهما. فالقرآن طبيبهما، وبالمجان وبالضمان، في الدنيا والآخرة، وبذلك يحققان قول الله تعالى في سورة يونس:
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {62} الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ {63} لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {64}}.
الاعتماد على الله تعالى لم يعد أمراً دينياً فحسب بل نفسياً أيضاً ونجد اليوم مصحات نفسية في الغرب تعلم مرضاها طرقاً في التفكير بالقوي الواحد الذي يجب الارتباط به للخروج من الخوف أو الحزن.
وقد اعتمدت مصحات كثيرة أسلوب المعالجة بتكرار العبارات الشافية المقنعة، والتي يعادلها عندنا ما تعلمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمى الأوراد أو الأذكار، ومنها التسبيح والتهليل والاستغفار.
حتى إن بعض المصحات الأوروبية توقظ مرضاها في الصباح الباكر وقبل الشروق وتعلمهم التأمل والاستنشاق والتركيز، في محاولة لاستعادة هؤلاء المرضى صحتهم النفسية. ونجد ذلك في آيات عدة من القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات]. وقوله كذلك: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]. وقوله أيضاً: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) } [الإنسان].
بهذا الأسلوب الهاديء والدقيق والرقيق يساعد القرآن الكريم الانسان ليس فقط على معالجة أزماته وعقده، بل يمكنه من أن يتصالح مع نفسه، ويصبح إنساناً سوياً، كما يساعده على توسيع مداركه وتطوير شخصيته، وذلك منذ ألفٍ وأربعمئة سنة، بينما لا يزال علماء النفس إلى اليوم عيالٌ على هذا العلم، يتخبطون في نظرياته فيثبتونها تارة وينقضونها طوراً، والقرآن أمامهم ظاهر للعيان، ينادي إلى الإيمان فمن الناس من يلبي فينجو ومنهم من يعترض ويعارض فيترك لنفسه، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر].