بقلم أ.ع.
أرسل الله تعالى الرسل إلى خلقه ليدلوهم عليه وليوحدوه ويعظموه، وكافأهم على ذلك بجعل حياتهم وتطلعاتهم أرقى وأسمى، فجعل من مهام الرسل أيضاً تربية الناس وتزكية نفوسهم ورفع مستواهم وتحسين أدائهم الأخلاقي والاجتماعي؛ يقول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
ومما تعني {ويزكيهم}، أي يطهرهم من رذائل الأخلاق، ودنس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ظلمات القلب إلى نور الذكر نور العقل، {ويعلمهم الكتاب} وهو القرآن، {والحكمة} وهي السنّة وحسن التصرف، ويعلِّمهم ما لم يكونوا يعلمون، فكانوا في الجاهلية أجهل الجهلاء، فانتقلوا ببركة رسالته إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء، فصاروا أعمق الناس علماً، وأبرهم قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وأصدقهم لهجة.
وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، خاتم الأنبياء والمرسلين، وبشهادة علماء المسلمين وغير المسلمين، أعظم الأنبياء والرسل تأثيراً في أصحابه والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين، فقد كانت له أساليب متنوعة في جذب الناس إلى الله، مع أن هدفه من الدعوة واحد وهو التوحيد.
وكان على الراغب في تزكية نفسه أن يتقدم من النبي صلى الله عليه وسلم ويتبعه حتى يفلح، قال الله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ {156} الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ (التكاليف الشاقة) وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {157} (الأعراف).
أثار اهتمام الناس بالدين وبمن ينبغي أن يعلمهم الدين، فقال لابن عمر: -ح: ” يا ابن عمر دينك دينك ، دينك لحمك ودمك ، خذ دينك عن الذين استقاموا ولا تاخذ دينك عن الذين قالوا”.
وعن ابن عمر أيضاً، قال: (كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه حرملة بن زيد- الأنصاري أحد بني حارثة، فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله الإيمان ههنا وأشار بيده إلى لسانه والنفاق ههنا ووضع يده على صدره، ولا يذكر الله إلا قليلا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد ذلك حرملة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرف لسان حرملة، فقال: ” اللهم اجعل له لسانا صادقا وقلبا شاكرا، وارزقه حبي وحب من يحبني، وصير أمره إلى خير”، فقال له حرملة: يا رسول الله إن لي إخوانا منافقين كنت فيهم رأسا، أفلا أدلك عليهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من جاءنا كما جئتنا استغفرنا له كما استغفرنا لك، ومن أصر على ذلك فالله أولى به “).
وفرض الله تعالى على الناس طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم كي ترتقي نفوسهم وتصلح معيشتهم وليفلحوا في دنياهم وفي آخرتهم فقال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{31} قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ {32} . (سورة آل عمران). وصار حب الرسول هو التقدمة من التلميذ للمعلم، يسلمونه قلوبهم فيزكي لهم نفوسهم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : -ح: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين” .
كان صلى الله عليه وسلم مدرسة شاملة في التربية ومستشفى مجهزاً لأغلب أنواع الأمراض، فعالج قضاياهم الروحية والحياتية، فوجّه أصحابه وعلّمهم وأعطى المثل في كل ما علّم، علّم الزهد وكان أزهدهم، حض على الجهاد وكان أشجعهم، عالج بالحب أمراضاً مستعصية جعلت أصحابه يتخلون عن كل نقيصة ويتحلون بكل مزيّة.
روى أبو داود عن أبي هريرة قال ” جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه فقالوا: يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا الشيء يعظم أن نتكلم به ما نحب أن لنا الدنيا وأنا تكلمنا به، فقال أو قد وجدتموه؟ ذاك صريح الإيمان ” وروى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “يأتِي الشَّيْطانُ أحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فإذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ باللّه وَلْيَنْتَهِ” وفي رواية في الصحيح: “لا يَزالُ النَّاسُ يَتَساءلُونَ حتَّى يُقالَ هَذَا: خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذلكَ شَيْئاً فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ وَرُسُلِهِ”.(وفي رواية فليقل الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ثم ليتفل عن يساره ثلاثا وليستعذ من الشيطان).
ونشّأ فتيان الصحابة على قيام الليل فقال لابن عمرو بن العاص:-ح: “يا عبد اللَّه لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل”. وقال لمن سأله أن يشفع له وأن يكون معه في الجنة أعني على نفسك بكثرة السجود. وقال لمن شكا له لسانه الذرب (السليط بالسباب) على أهله: -ح: “أيْنَ أنْتَ مِنَ الاسْتِغْفارِ؟ إني لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةِ”.
وحذر أصحابه من مكنونات النفس وخاصة من المراءاة والشرك الخفي فقال:-ح: “أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل”.
وقد أنعم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بالقدرة على فهم مكنونات كل فرد وخصائص كل قوم، فشجع على تولية بعض الصحابة على الأمصار كعلي ومعاذ وعلى قيادة الجند كأبي عبيدة وخالد بن الوليد بينما نهى آخرين عن الولاية فقال لأبي ذر:” إني أراك رجلاً ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تتأمر على اثنين”. وابعد عمه العباس وعدداً من الصحابة عن السلطة رأفة بهم. وكان يبدع في شد الانتباه، وشحذ الهمم وتحفيز الرجال واستنهاض العزائم، وكان القادم إليه لا يخرج من عنده إلا وقد شرح صدره وأسر قلبه وأيقظ عقله وحمّله رسالته بحسب استطاعته.
فقد كان خبيراً بالرجال وأولي العزم، فسمى أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة فكان كذلك حيث قدّم اجتماع الأمة على أن يتولى الخلافة، وقال عن سهيل بن عمرو أسير بدر حين أشار عمر بن الخطاب بقلع ثنيته حتى لا يتكلم ضد الإسلام: -ح: إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمنّه، فكان كما قال يوم كاد أهل مكة يرتدون بعد وفاة النبي، فقام سهيل بن عمرو رضي الله عنه فيهم فحمد الله واثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إن ذلك لم يزد الاسلام إلا قوة فمن رابنا ضربنا عنقه)، فتراجع الناس وعادوا إلى رشدهم.
وهكذا فقد نمّى قدرات كل منهم ووجّههم ليعطوا أفضل ما عندهم، فانتقل المغيرة بن شعبة من غادر يغدر بأصحابه في الجاهلية إلى أمير في الجيش وناطق باسم قائده، واصبح فقراء الصحابة سادة الناس وحكماءهم، فتنوعت سبلهم في الحياة والدعوة والجهاد والعطاء، كلٌ حسب ما وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقاً لقدراته وإمكاناته، والكل تفانى فيما يملك، وعالج صلى الله عليه وسلم الشح في النفوس وحض على العطاء والتضحية، ومما قاله في ذلك: -ح: «إِذَا قَاتَلَ الشُّجَاعُ وَالْجَبَانُ , فَأَعْظَمُهُمَا أَجْرًا الْجَبَانُ , وَإِذَا تَصَدَّقَ الْبَخِيلُ وَالسَّخِيُّ فَأَعْظَمُهُمَا أَجْرًا الْبَخِيلُ». (عن أبي عمران الجَوني).
فلم يستحِ أصحاب الإمكانات المحدودة من تقديم ما لديهم بعد أن شجعهم وهنّأهم وأعظم أجورهم. فقال للفقراء: -ح: طتصدقوا ولو بشق تمرة”، وحث الفقير على الصدقة ولو بدرهم فقال: -ح: “سبق درهم مائة ألف درهم”. قيل: يا رسول الله، كيف يسبق درهم مائة ألف؟ قال: “رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به، ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف فتصدق بها “.
وكان يلاطف الناس فقيرهم وغنيهم صبيهم وشيخهم، قال الله تعالى فيه: {بالمؤمنين رؤوف رحيم}، مما أذهب عنهم قسوة التعامل والتجاهل والتباغض، وكان صلى الله عليه وسلم يقول:- ح:إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض.
لم يقفل بابه بوجه أحد، ولم يعبس بوجه أحد ولو كان منافقا، روى البخاري عن عروة، عن عائشة: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه قال: (بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة). فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة، متى عهدتني فحاشاً، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره).
والمفارقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع الغريب والبعيد أكثر لطفاً وتحبباً وكان مع المقربين الذين يريد الله بهم خيراً ونفعاً أكثر صرامة وأشد تاديباً وفي ذلك قال : -ح: “أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع وأكِل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير”.
فبالتربية تخرج من مدرسة رسول الله أمراء صالحون وقادة مجاهدون وعلماء فقهاء ” كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء”، كما وصفهم مربيهم صلى الله عليه وسلم. بعد أن بذل كل ما في وسعه، من وقته وجهده وعافيته وماله، وكان يسابق العمر ليبلغ الرسالة كاملة وليعد أصحابه لاستئناف المسيرة ومتابعة الرسالة من بعده. فأحسن تربيتهم واعتنى بإعدادهم ففتحوا الأمصار وعلموا الناس ودعوا إلى الخير، فكانوا خير خلف لخير سلف صلى الله عليه وسلم.