بقلم أ.ع.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ “. [1]
وجوامع الكلم في الحديث الشريف، تعني أن معانيه الغزيرة والعميقة صيغت بألفاظٍ قليلة، وهو الكلام الذي يذهب مضرب الأمثال لحسنه وبيانه وبلاغته ورشاقته إضافة إلى حكمته وأحكامه. وعنه قال الإمام البخاري: (بلغني في جوامع الكلم إن الله جمع له الأمور الكثيرة في الأمر الواحد والأمرين ونحو ذلك). وكتب الإمام المناوي شارحاً: (“أوتيت جوامع الكلم”، أي أوتيت مَلكةً أقتدر بها على إيجاز اللفظ، مع سعة المعنى، بنظم لطيف لا تعقيد فيه يعثر الفكر في طلبه، ولا التواء يحار الذهن في فهمه، فما من لفظة يسبق فهمها إلى الذهن إلا ومعناها أسبق إليه[2].
ومن مثل الكلام الذي يؤثر في أعماق النفس البشرية قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم وخضراء الدِمَن». ويشرحه صلى الله عليه وسلم فيقول:” المرأة الجميلة في المنبت السوء”. وخضراء الدمن لغةً، هي النبتة الخضراء الجميلة التي تنبت في براز الماشية، قصد بها العائلة التي لا قِيم عندها ولا تربية لها.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين». أي أن المؤمن على طيبته ولطفه لا يكون غبياً، ولا يأمن لمن آذاه. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إن المنبتَّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى» . ويعني العجول اللجوج الذي يتعب نفسه وغيره كمثل الراكب الذي يقصم ظهر دابته ولا يصل إلى بغيته.
ومن أقواله التي تنفذ إلى القلوب: «إن للقلوب صدأً كصدإ الحديد، وجلاؤها الاستغفار» . ونصيحته: «داووا مرضاكم بالصدقة» .
ومن جوامع التشبيه عند رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قوله: «الناس كإبل مئة لا تجد فيها راحلة». أي أن النجيب من الناس كالنجيب من الجِمال، لا يقوى على السفر منها إلا واحد من كل مئة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضاً» . وكذلك قوله:«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» . ومن جوامع التشبيه: «مثل أصحابى كالملح لا يصلح الطعام إلا به» . وقوله: «أمتي كالمطر لا يدري أوله خير، أم آخره، أينما وقع نفع» [3].
ومن جوامع مواعظه عليه الصلاة والسلام: «عمّالكم أعمالكم، وكما تكونوا يولّى عليكم» . وكذلك قوله: «الدالّ على الخير كفاعلِه»
ومن جوامع العقود، ما أمر بكتابته في عقد هدنة صلح الحديبية بين مشركي قريش والمسلمين، جاء فيه:«إن العقد بيننا كشرج العيبة إذا انحل بعضه انحل جميعه» . والعيبة هي الكيس الذي يخزن الفاخر من الثياب، وشرجها هو العرى المتتالية (السحّاب أو السوستة في أيامنا)، التي إذا انفكت إحداها حلّت جميعها. (يتبع في العدد القادم، إن شاء الله).
[1] عن أبي هريرة متفق عليه واللفظ للإمام مسلم.
[2] فيض القدير في شرح الجامع الصغير للإمام المناوي، حرف الهمزة.
[3] كتاب الإعجاز والإيجاز، لعبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت429هـ).