بقلم أ.ع.
بين الشعر الصادق الناجم عن أحاسيس مرهفة وقلب متعلق ووصف حقيقي للمزايا والمشاعر وبين شعر المادحين المرتزقين المتملقين فرق شاسع مهما علت بلاغته وتنمق وصفه. ولا مقياس لصدق المشاعر أفضل من قلب مؤمن ذاكر ولسان للكتاب الكريم نديم وللحديث الشريف أليف.
يقول الشيخ العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله: (ظل فن المديح في الشعر، ملازما لآفتين…أولى الآفتين: الفجوة بين طبيعة الشعر بحد ذاته، وواقع الممدوح أيا كان شأنه.. ذلك لأن طبيعة الشعر هي الغلوّ والافراط وواقع الممدوح بحكم كونه إنسانا لا تنفك عنه سمة النقص والضعف. والشأن في ذلك أن يضعف من جدّية الشعر وتأثيره على النفس، ويفرغه من أكثر المضمون الذي يجمّله ويحببه. والآفة الثانية: أنّ الدافع للشعراء إلى المديح، يتمثل في عوامل من الأطماع والآمال الخارجية أكثر من أن يتمثل في مشاعر صادقة من المحبة الداخلية. وإذا فرغ الشعر من صدق الشعور عاد صنعة كلامية وزخرفا لفظي. واقتصر طريقه إلى النفوس من هذه الزاوية وحدها. غير أن هاتين الآفتين لا يبدو لهما أي وجود، في الشعر الذي مدح به محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أيا كان الشاعر، وأيا كان واقعه وشأنه)[1].
ونترك للقاريء الكريم تلمس الصدق في المشاعر والرقة والدقة في وصف أحاسيس بعض الذين شاهدوا الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم شهود عيان أو مشاهدة قلبية فعشقوا ورقوا وارتقوا.
- الصحابي الأنصاري الشهيد عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
إني تفرست فيك الخير أعرفه … فراسة خالفتهم في الذي نظروا
ولو سألت أو استنصرت بعضهم … في جل أمرك ما آووا وما نصروا
فثبت الله ما آتاك من حسن … تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
- الصحابي حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه:
وأحسن منك لم تر قط عيني … وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرّءا من كل عيب … كأنك قد خلقت كما تشاء
- ولحسان رضي الله عنه قصيدة أخرى مدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها:
أغرّ، عليه للنّبوّة خاتم … من الله مشهود يلوح ويشهد
وضمّ الإله اسم النّبي إلى اسمه، … إذ قال في الخمس المؤذّن أشهد
وشقّ له من اسمه كي يجلّه … فذو العرش محمود، وهذا محمّد
نبي أتانا بعد يأس وفترة … من الرّسل، والأوثان في الأرض تعبد
فأمسى سراجا مستنيرا وهاديا، … يلوح كما لاح الصّقيل المهنّد
وأنذرنا نارا، وبشّر جنة … وعلّمنا الإسلام، فالله نحمد
وأنت إله الخلق ربّي وخالقي … بذلك ما عمّرت في الناس أشهد
تعاليت ربّ الناس عن قول من دعا … سواك إلها، أنت أعلى وأمجد
لك الخلق والنّعماء، والأمر كلّه، … فإيّاك نستهدي، وإيّاك نعبد
- كعب بن زهير جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائباً، بقصيدة مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول … متيم إثرها لم يجز مكبول
- إلى أن قال:
يسعى الوشاة بجنبيها وقولهم … انك يا ابن أبي سلمى لمقتول
وقال كل خليل كنت آمله … لا ألفينك أني عنك مشغول
فقلت خلّوا طريقي لا أبالكم … فكل ما قدّر الرحمن مفعول
كل ابن انثى وإن طالت سلامته … يوما على آلة حد باء محمول
أنبئت أن رسول الله أوعدني … والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال … قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم … أذنب ولو كثرت عني الأقاويل
- ثم ختم بمدح النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه فقال:
إن الرسول لسيف يستضاء به … مهند من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم … ببطن مكّة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال انكاس ولا كشف … عند اللقاء ولا ميل معازيل
شمّ العرانين أبطال لبوسهم … من نسج داود في الهيجا سرابيل
- الأعشى:
فآليت لا أرثي لها من كلالة، … ولا من حفى حتى تزور محمّدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم … تريحي وتلقي من فواضله يدا
نبي يرى ما لا ترون، وذكره … أغار، لعمري، في البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغيب، ونائل … وليس عطاء اليوم مانعه غدا
- ومن قصيدة البردة للإمام شرف الدين محمد البوصيري مطلعها:
أمن تذكر جيران بذي سلم … مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
أم هبّت الريح من تلقاء كاظمة … وأومض البرق في الظلماء من إضم
فما لعينيك إن قلت إكففا همتا … وما لقلبك إن قلت استفق يهم
أيحسب الصّبّ أنّ الحبّ منكتم … ما بين منسجم منه ومضطرم…
- ومن اجمل ما فيها:
محمّد سيّد الكونين والثّقلين … والفريقين من عرب ومن عجم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته … لكلّ هول من الأهوال مقتحم
دعا إلى الله فالمستمسكون به … مستمسكون بحبل غير منفصم
فاق النّبيين في خلق وفي خلق … ولم يدانوه في علم ولا كرم
وكلّهم من رسول الله ملتمس … غرفا من البحر أو رشفا من الدّيم
وواقفون لديه عند حذّهم … من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
فهو الذي ثمّ معناه وصورته … ثمّ اصطفاه حبيبا بارىء النّسم
- إلى أن يقول:
فمبلغ العلم فيه أنه بشر … وأنه خير خلق الله كلّهم
وكلّ آي أتى الرّسل الكرام بها … فإنما اتّصلت من نوره بهم
فإنه شمس فضل هم كواكبها … يظهرن أنوارها للناس في الظّلم
أكرم بخلق نبيّ زانه خلق … بالحسن مشتمل بالبشر متّسم
كالزّهر في ترف والبدر في شرف … والبحر في كرم والدّهر في همم
كأنه وهو فرد من جلالته … في عسكر حين تلقاه وفي حشم
- ويمدح تفرده صلى الله عليه وسلم بالمقامات الشريفة فيقول:
لا تعجبن لحسود راح ينكرها … تجاهلا وهو عين الحاذق الفهم
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد … وينكر الفم طعم الماء من سقم
يا خير من يمّم العافون ساحته … سعيا وفوق متون الأينق الرّسم
ومن هو الآية الكبرى لمعتبر … ومن هو النّعمة العظمى لمغتنم
سريت من حرم ليلا إلى حرم … كما سرى البدر في داج من الظّلم
وبتّ ترقى إلى أن نلت منزلة … من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم
وقدّمتك جميع الأنبياء بها … والرّسل تقديم مخدوم على خدم
وأنت تخترق السّبع الطّباق بهم … في موكب كنت فيه صاحب العلم
- ويذكر منة الله على الناس بالدين وبالنبي:
بشرى لنا معشر الإسلام إنّ لنا … من العناية ركنا غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته … بأكرم الرّسل كنّا أكرم الأمم
- ثم يسأل الله تعالى أن يكفر عنه ما قد مضى بتوبته وبهذا المديح:
كفاك بالعلم في الأميّ معجزة … في الجاهلية والتأديب في اليتم
خدمته بمديح أستقيل به … ذنوب عمر مضى في الشّعر والخدم
اذ قلّداني ما تخشى عواقبه … كأنني بهما هدي من النّعم
أطعت غيّ الصّبا في الحالتين وما … حصلت إلّا على الآثام والنّدم
فيا خسارة نفس في تجارتها … لم تشتر الدّين بالدّنيا ولم تسم
- ويرجو أن ينال الشفاعة ببركة تسمّيه باسم النبي صلى الله عليه وسلم ومستجيراً به:
فإنّ لي ذمة منه بتسميتي … محمدا وهو أوفى الخلق بالذّمم
إن لم يكن في معادي آخذا بيدي … فضلا وإلّا فقل يا زلّة القدم
حاشاه أن يحرّم الرّاجي مكارمه … أو يرجع الجار منه غير محترم
وإلى عددٍ قادمٍ إن شاء الله
[1] محمد سعيد رمضان البوطي، مختارات من اجمل الشعر في مدح الرسول، دار المعرفة، دمشق ، الطبعة الأولى 1408هـ، ص5.