أ.ع.
روي أن قوماً من العرب فيهم زيد بن عمرو بن نفيل، قدّموا إلى الشاب محمد بن عبد الله سفرةً فيها لحم فأبى أن يأكل منها وقال:”إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه” [1]. وتعرف العرب أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبل الوحي لم يشرب خمراً قط ولم يسجد لصنم ولا وثن وصان جسده الشريف من الحرام ومن ارتكاب المحرمات، وتحلّى بمكارم الأخلاق فعرف قبل النبوة بالصادق الأمين.
ولادة النبوة
في الوقت الذي كان رجال قريش والعرب يسهرون ويسمرون، كان محمد الشاب ثم الرجل يتعفف عن ذلك وحبب إليه إن يخلو بعيداً عن الضوضاء، فصار يصعد إلى غار حراء في الجبل بضاحية مكة، ويناجي ربه ويتفكر ويتعبد، يغيب عن بيته الليالي الطوال ثم يعود إليه ليتمم واجبات الزوجية ثم يتزود بالطعام والشراب ليعود إلى خلوته من جديد، حتى قالت قريش فيه:”محمد عشق ربه”.
وصارت حالته الروحية ترتقي شيئاً فشيئاً من الرؤية الصادقة في النوم، وكانت رؤاه تتحقق،إلى أن بلغت روحه التواقة إلى ربها قدرتها الشفافة على رؤية الملَك والتحدث إليه.
تقول السيدة عائشة أم المؤمنين في ذلك:
كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء، فيتحنث فيه – قال: والتحنث التعبد – الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود بمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنا بقارئ). قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم}. الآيات إلى قوله: {علم الإنسان ما لم يعلم}). فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال: (زملوني زملوني). فزملوه حتى ذهب عنه الروع. قال لخديجة: (أي خديجة، ما لي، لقد خشيت على نفسي). فأخبرها الخبر، قالت خديجة: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، قال ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا، ذكر حرفا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو مخرجي هم). قال ورقة: نعم، لم يأت رجل بما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي،…”[2].
على من يتنزل الوحي
يتنزل وحي الله تعالى على من اصطفى من خيرة خلقه وخيرة الخلق تعني من هم أصفى قلوباً وأرحم أفئدة وأكثرهم حباً وعطفاً على مخلوقات الله. وقد ورد أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: ” أتدري لما اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي قال: لا يارب قال: لأنه لم يتواضع لي أحد قط تواضعك،[3]، وفي رواية:” اطلعت على قلوب عبادي فلم أجد قلباً أصفى لمودتي من قلبك يا موسى”.
وفي كتاب الجواهر المجموعة عن عمر رفعه:” إن الله بعث جبريل إلى إبراهيم: إني لم أتخذ خليلا على أنك عبد من عبادي، ولكن اطلعت على قلوب المؤمنين فلم أجد قلبا أسخى من قلبك “.
ويختار الله تعالى صاحب القلب الرحيم لأن الله وهو الرحيم لا يريد ضلماً للعباد بل يختار لهم من يرشدهم وينقذهم ويصبر على جهاهم ويرأف بهم ويعطف عليهم، وقد ورد أن موسى عليه السلام سأل ربه:
“يا رب بم اتخذتني كليما” ؟ فقال الله تعالى له: أتذكر إذ ند من غنمك جدي فأتبعته أكثر النهار وأتعبك، ثم أخذته وقبلته وضممته إلى صدرك وقلت له: أتعبتني وأتعبت نفسك، ولم تغضب عليه؛ من أجل ذلك اتخذتك كليما.[4]
وقد نبهنا الله تعالى في كتابه العزيز إلى هذه الصفات الطيبة التي يتمتع بها نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {سورة التوبة آية 128}. وروي أن عبارة من أنفُسِكم تقرأ أيضاً بفتح الفاء (من أنفَسِكم)، أي من أعظمكم قدرا[5] .
الاصطفاء
قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ { سورة آل عمران، آية33}، أي على جميع الخلق كلهم وهم بالتالي صفوة الخلق ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو من هذه الصفوة لأنه من نسب إبراهيم عليه السلام، ففي الحديث الشريف:
-ح:”إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشاًواصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم”[6]
والله تعالى يصطفي الدين الحنيف ليحمّله للذين اصطفى من عباده قال تعالى:
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {سورة البقرة، آية132}. وقال:” ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا…{سورة فاطر من الآية 32).
ومن حكمة الله تعالى وفضله أن يرسل لكل قوم أو أمة أو قرن نبياً أو رسولا، يحيط قومه بقلبه عطفاً عليهم ويحيط بعقله عقول الذين أرسل إليهم فيفوقهم حلماً وعلما.
ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والنبيين، ومرسل للأجيال القادمة جميعاً، فقد منّ عليه بعقل وقلب يسعان من عاصره ومن سيأتي بعده، فاختاره أوفر الناس عقلا، واكثرهم علما، وأرحمهم على الإطلاق، ففي الحديث:
-ح:”بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى كنت من القرن الذي كنت فيه”[7].
وإذا قال تعالى عمن اختار من الأنبياء والرسل أنه اصطفاهم على العالمين فقد ميّز نبينا بأن وصفه:”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” {سورة الأنبياء، آية 107}.
قال الحكيم الترمذي:”خلق الرسل للرحمة واما محمد عليه الصلاة والسلام فقد خُلِقَ بنفسه رحمة، فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة وذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:-ح:”إنما أنا رحمة مهداة”. أي هدية من الله تعالى إلى خلقه. ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
-ح:” خير العرب مضر وخير مضر بنو عبد مناف وخير بني عبد مناف بنو هاشم وخير بني هاشم بنو عبد المطلب ، والله ما افترق شعبتان منذ خلق الله آدم إلا كنت في خيرهما” [8].
[1] عن سالم عن عبد الله بن عمر.
[2] رواه البخاري عن عروة عن عائشة.
[3] أخرجه أبو نعيم في الحلية عن سودة.
[4] تفسير القرطبي سورة النساء آية 164، عن وهب بن منبه.
[5] رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس مرفوعاً.
[6] أخرجه ابن سعد ومسلم والترمذي والبيهقي في الدلائل عن واثلة بن الأسقع.
[7] أخرجه ابن سعد والبخاري والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة.
[8] أخرجه ابن سعد عن ابن عباس.