بقلم أ.ع.
حلّ العام السابع للبعثة وقد شاع في القبائل خبر ظهور النبي المنتظر، وازداد عدد الذين أسلموا من قريش ومنهم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكثر زوار مكة لاستطلاع خبر النبي الجديد. بينما نجح المسلمون المضطهدون بالفرار من مكة إلى الحبشة، حيث تفوق المهاجرون على وفد قريش عند ملكها النجاشي، وفقدت قريش ”عمارة“ أحد موفدَيْها إلى الحبشة.
تعاظم حنق قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وزاد في غيظها أنها عجزت عن قتله لمنعته في عشيرته من بني هاشم، فقد رفض عمه أبو طالب تسليمه، كما أعد فتيان العشيرة للانتقام من زعماء قريش إن مسوا ابن أخيه بأي سوء. وأصبح الاشتباك بين الطرفين وشيكا.
على الأثر اجتمعت قريش لمقاطعة بني هاشم وحلفائهم، وتعاهد أقطابها ألا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يبايعوهم ولا يزوّجوهم ولا يدخلوا بيوتهم. وكتبوا بذلك صحيفة لتثبيت العهود وتوكيدها “على ألا يقبلوا من بني هاشم صلحاً ولا تأخذهم بهم رأفة ولا رحمة ولا هوادة حتى يسلموا رسول الله للقتل”. وخرج أبو طالب بعشيرته وحلفائها وبالمسلمين من مكة إلى شِعبه وهو الوادي الذي كانت ترعى فيه أغنامه ويقع خلف جبلي الصفا والمروة ليمنعوا قريشاً من الوصول إلى ابن أخيه.
استمرت المقاطعة والحصار طيلة ثلاث سنوات ولم يكن بمقدور المحاصَرين، ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم، الخروج من الشِعب إلا في الأشهر الحرم. وقد عانوا من البرد والجوع والمرض والفقر إذ توقفت تجارتهم وشلت حركتهم. ومنع المشركون عنهم الطعام واحتكروا التجارة فلم يبيعوهم ولم يشتروا منهم ورفعوا الأسعار وزادوا عليهم بالثمن حتى جاع الناس وسمع صراخ الأطفال من الشعب واشتد البلاء حتى أكلوا أوراق النبات وجلود الحيوانات، وما وصل للمسلمين طعام إلا خفية من قريب أو تابع بنخوة أو عطف من صديق قديم.
وفي خلال هذه الظروف الصعبة ظهرت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وقدراته الفذة. فلم يشغله شظف العيش ولا الجوع ولا الحصار عن تبليغ رسالات ربه. وشد من عضد المؤمنين، فمن كان على الصراط المستقيم لا يزعزه أي خطب أو بلاء أو ضغوط أو مصالح دنيوية. ومن حكمته صلى الله عليه وسلم، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أفضل؟ فقال (رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه) قال: ثم من؟ قال (مؤمن في شعب من الشعاب، يعبد الله ربه، ويدع الناس من شره).
تحول الحصار إلى عزلة خلا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وظهرت لهم قوة شخصيته الآسرة، فأحبوا القائد النزيه والخلوق والقدوة. وجذب قلوبهم فصدقوه وآمنوا بما وعدهم مما أنساهم كل الصعاب وهان عليهم ما يجدون في مقابل ما يوعدون في الدنيا وفي الآخرة.
اغتنم النبي صلى الله عليه وسلم تلك الفترة فقوّى إرادة أصحابه وشد عزائمهم ففهموا وفقهوا معنى المسؤولية الملقاة على عاتقهم لنشر دين الله وأن النصر مع الصبر وأنه لا بد من اجتياز هذه العقبة حتى يفتح الله عليهم بعد ذلك، فصبروا وتحملوا فما وهنوا وما ضعفوا .
وعزّز رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمان أصحابه بالدار الآخرة والحساب يوم القيامة فلو وهنوا لكانوا غير جديرين بهذا الدين ولا بهذا النبي وليس لهم في الآخرة من خلاق.
ولم يتوقف عليه الصلاة والسلام عن الدعوة إلى الله فقد كان يغتنم المواسم ليدعو الحجاج إلى الله تعالى، ويرغبهم بالدخول في دين الإسلام.
وكانت آيات القرآن الكريم تنزل تباعاً خلال تلك المحنة تأييداً لموقف النبي والمسلمين، تشجعهم وتبشرهم بالفرج بعد الشدة وتعدهم بنصر الله وبخذلان الكافرين ومنها أول سورة العنكبوت، قال تعالى:{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ {4} مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {5} وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {6} (سورة العنكبوت).
وكذلك ما نزل في آخر سورة الصافات:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ {171} إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ {172} وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ {173} فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ {174} وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ {175} أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ {176} فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ {177} وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ {178} وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ {179} سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {181} (سورة الصافات).
ثم أتى الفرج بعد الشدة، فانقسم الرأي في قريش بين متشدد وبين متعاطف لما رأوه من الجهد والأسى لدى المسلمين وخاف بعضهم أن تعيب العرب قريشاً لما ترتكبه بحق خير أنسابها. فتناصح خمسة من أكابرها فجاؤوا إلى الكعبة، وجلسوا بالحجر ثم صاح أحدهم: (يا أهل مكة ! أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم لا يباعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة)، فقاموا ليشقوها فوجدوها قد تآكلت ولم يبق منها سوى كلمتان:”باسمك اللهم”. فلبس الخمسة السلاح وقاموا إلى بني هاشم وبني المطلب فأخرجوهم من الشعب إلى بيوتهم في مكة.
وأما الحكمة التي نستقيها نحن من تلك الفترة فهي أن لا يأس مع الإيمان وأن لكل شدة فرج وان بعد كل عسر يسرا، وأن النصر مع الصبر. والحمد لله رب العالمين.