بقلم أ.ع.
بعد ان اشتدت معاناة النبي صلى الله عليه وسلم، لما لقيه هو وأصحابه من أذى المشركين، وبعد أن تراكمت الأحزان عليه بفقده سنديه، عمِّه أبي طالب وزوجته خديجة، شاءت العناية الإلهية أن تضع حداً للمشهد المحزن وأن تنقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عالم الحق والحقيقة، ليشهد، وهو المؤمن بالغيب، بديع خلق الله وعظيم فضله على نبيه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، فكانت الرحلة الفريدة الميمونة، المؤذِنة بمستقبل خطير ستتسارع فيه الأحداث وسيشهد ولادة متجددة للبشرية وللانسانية، تظهر فيها دولة التوحيد والعدل والرحمة والأمن والسلام.
في ليلة السابع والعشرين من رجب، قبل الهجرة بسنة، صدر الأمر الإلهي بالإسراء أي السفر ليلاً وبالمعراج أي الصعود إلى السماء وأي سماء، إنه اختراق للسماوات محظر ومستحيل إلا على النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم.
ولعل القصد الإلهي من هذا السفر العجيب هو أن يعرف المؤمنون والمشركون على السواء أن الوحي الذي ينزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ليس توهماً ولا كهانةً ولا جنوناً، واعتباراً من تلك الليلة لن يعود للشك فيه مجال، بل سيتخطاه الأمر إلى أبعد من ذلك: إن ما يجري لهذا النبي الكريم والرسول العظيم أمر جلل عظيم. إنه نبي الله المختار، وقد آن الأوان ليعلم الجميع أنه مؤيّد بقوىً لا يمكن صدّها، وأن الدين الجديد سيبلغ المشرق والمغرب، بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل.
وجاء التأكيد بالنص القرآني الواضح، قال تعالى في أول سورة الإسراء:{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
كما أكدت المعراج الآيات من سورة النجم: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَايَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَاطَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)}.
وتتالى خلال الرحلة مشاهد واضحة المعنى ومواقف رمزية، ترسم بمجملها معالم المستقبل كما تؤكد الذي جاء به الأنبياء والرسل من قبل.
ومن مشاهد رحلة الإسراء نوجز ما يلي:
- قيام الملائكة بتحضير جسد النبي ليتحمل هذه الرحلة الروحية التي ستتخطى الزمان وتتعدى المكان.
- لم يسبح المسافران (سيدنا جبريل وسيدنا محمد عليهما السلام)، بجسديهما في الفضاء وكأنه حلم بل بمركبتين ماديتين أعدتا لهذه الغاية.
- طلب جبريل من نبينا أن يهبط ويصلي في مدينة يثرب وأعلمه أن إليها سيكون المهجر.
- مر على قبر موسى عليه السلام ووجده يصلي فعلمنا ان الأنبياء مكرّمون في قبورهم، أحياء يصلّون لربهم.
- دعِي النبي لأن يميل إلى الأديان السابقة فأبى، وتمثلت الدنيا بعجوز تدعوه لم يبق من عمرها إلا القليل، وعرض له الشيطان يريد أن ينحيه عن الطريق المرسوم.
- رأى عموداً أبيض من نور كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة فأجيب صلى الله عليه وسلم:”عمود الكتاب أُمِرنا أن نضعه بالشام”. وهنيئاً لمن فهم هذه الإشارة.
- عرضت المغريات التي ستتعرض لها أمة النبي صلى الله عليه وسلم، وتمثلت بالخمر أي الغواية، والماء أي الغرق في خيرات الدنيا واختار عليه الصلاة والسلام اللبن ويعني الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي التوحيد بكل نقاء وصفاء ووضوح.
- أسري به إلى بيت المقدس مهد الديانات الأخيرة السابقة، ولعل المقصود هو تسلم مشعل النبوة من آخر أرضٍ دعي الله فيها ولإعادته إلى أول بيت وضع للناس، فيكون الدين قد دار دورته على الأرض وعاد إلى حيث انطلق.
- دخل المصطفى عليه الصلاة والسلام مع جبريل إلى بيت المقدس قال:” فنشر لي رهط من الأنبياء من سمى الله (في القرآن) ومن لم يسم” فيهم إبراهيم وموسى وعيسى…”.
- قدم جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فصلى إماماً بالأنبياء والرسل، وهو آخرهم ظهوراً وقد يكون ذلك تكريما له وإكباراً للزيارة الفريدة العظيمة التي سيقوم بها. لكن الأمر مذكور في كتاب الله تعالى من قبل وهو القائل في سورة آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)}. وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نحن الآخرون الأولون”.
- نزلت ليلة الإسراء الآية التالية من سورة الزخرف:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)}.فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تلك الليلة فقالوا: “بُعِثنا بالتوحيد”.
وإلى اللقاء مع الحكمة من المعراج في العدد القادم إن شاء الله.