بقلم أ.ع.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد فمن مهام النبي صلى الله عليه وسلم التي كلّفه المولى تعالى بها هي تعليم المؤمنين الحكمة. وليس أجمل من سيرته صلى الله عليه وسلم ولا من طريقة تعليمه للصحابة، وسيلة لتعلم بعض حكمته عليه الصلاة والسلام.
ولا تقتصر الحكمة على امور الدين بل على أمور الدين والدنيا وعلى ما يخالج النفس كما تكون على ما يخرج للعلن. وأعلى درجات الحكمة التوحيد واجتناب الشرك، تليها البر بالوالدين، ثم التحلي بالصفات والأخلاق الحميدة الفاضلة.
من الحكمة في بداية الدعوة ما علّمه الله تعالى لنبيه الكريم، أن لا يصرف جهدا كبيراً لاستقطاب المشركين المتصلبين، وأن يهتم بدعوة عامة الناس، فالعمل في بداياته يحتاج للعدد فالناس تتأثر بالكثرة، وللنوع لأن الأوائل هم القدوة لمن سيلحق بهم ولا سبيل إلى تضييع الوقت مع المعاندين. قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)} [الحجر].
ومن الحكمة أيضاً أن يستعين الداعي بالصالحين المحبين من ذوي الصلة بالناس ومن الذين يتحلّون بالمصداقية عندهم، فهذا أبو بكر يأتي بالنخبة من شباب قريش وفتيانها رضي الله عنهم أجمعين. وهو حلو المعشر لطيف لبق، يعرف النبي جيداً ويحبه ويخلص له، فإذا حدث عنه وعن صفاته وعن بعثته صدقه أصحابه واتبعوه بلا خجل ولا وجل. قال ابن هشام في السيرة: (وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مَأْلَفًا لِقَوْمِهِ، مُحَبَّبًا سَهْلًا، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكَانَ رَجُلًا تَاجِرًا، ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرِ، لِعِلْمِهِ وَتِجَارَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، مِمَّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إلَيْهِ). فجاء بعثمان بن عفان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وطلحة، فأسلموا بين يدي رسول الله، رضي الله عنهم أجمعين.
ومن الحكمة كذلك أن لا يتصدر الداعي الجديد ويتسمر في مكانه بانتظار من سيأتيه، بل عليه السعي والتنقل ودعوة الناس في أماكن سكنهم وعملهم وتجمعهم، وفي مناسباتهم واعيادهم وأفراحهم واتراحهم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد الحجيج في الموسم والعرب في الأسواق وكان يتردد على اصحابه الجدد فيتودد إليهم ويعظهم وهم في أعمالهم. ومنهم خباب بن الأرت رضي الله عنه، وكان قيناً بمكة يصنع السيوف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتردد عليه ويجلس يحدثه وخباب يعمل.
ومن الحكمة ان يتحلى الداعي بالصبر وان لا يعجل ولا ييأس فقد استغرقت المرحلة الأولى من البعثة إلى إظهار الدعوة ثلاث سنين، حتى فشا امر الإسلام في قريشن وكثر الأصحاب من حول النبي صلى الله عليه وسلم. ولو استعجل قبل ان يتمكن الإيمان من قلوب أصحابه وتشتد ثقتهم به لعاد بعضهم عن دينه عندما اشتد أذى قريش على النبي وأصحابه.
ومن الحكمة صبر الداعي على الضغوط التي يتعرض لها، فقد جاءت قريش إلى أبي طالب تشكو النبي وتحمل عمّه المسؤولية فقال: (يَا ابْنَ أَخِي، إنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَاءُونِي، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، لِلَّذِي كَانُوا قَالُوا لَهُ، فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنْ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ)، فكان موقف النبي صارماً بحق المشركين ولطيفاً مع عمه وكفيله فقال له:
” يَا عَمُّ، وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ”.
قَالَ ابن هشام: (ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَكَى ثُمَّ قَامَ، فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ: أَقْبِلْ يَا بن أَخِي، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اذْهَبْ يَا بن أَخِي، فَقُلْ مَا أَحْبَبْت، فو الله لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءِ أَبَدًا).
نستنتج مما سبق حاجة الداعي إلى الصبر والحكمة في استقطاب طلابه الأوائل بحيث يختار العنصر الطيب ذي الشهامة والهمة لأن الأتباع الأوائل سيعطون الدعوة سمتها العامة وسيصبغون من سيأتي بعدهم بصفاتهم الحميدة.