باسم وحيد الدين علي
-ولدت نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، عندما بلغ أربعين سنة، في غار حراء وكان رحم الولادة حب الله ودوام ذكره، إذ كان يتعبد الليالي ذوات العدد،[1] وكانت قريش تراه يتردد إلى حراء فتقول (محمد قد عشق ربه)، والمقصود من حراء الانقطاع عن الخلق والالتجاء إلى الله والخلوة به والاستئناس به والاستغناء عمن سواه.
وكان أول ما بديء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة ” إني أسمع صوتا وأرى ضوءا وإني أخشى أن يكون بي جنن”، فقالت خديجة: (لم يكن الله ليفعل بك ذاك يا ابن عبد الله)، ثم أتت ورقة بن نوفل فذكرت ذلك له فقال:( إن يكن صادقا فإن هذا ناموس مثل ناموس موسى فإن يبعث وأنا حي فسأعزره وأنصره وأعينه)[2].
ثم تكررت رؤية المَلَك حتى ضمّه وتلقى منه أول آيات من سورة العلق{إقرأ…}، ثم فتر الوحي حتى قالت قريش محمد قلاه ربه فأنزل الله تعالى {ما ودعك ربك وما قلى} ، تلتها بعد ثلاث سنوات{يا أيها المدثر قم فأنذر…}. فعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال، وهو يحدث عن فتور الوحي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ح: (بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر. قم فأنذر – إلى قوله – والرجز فاهجر} فحمي الوحي وتتابع)[3]. واستمر الوحي بالنزول طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكان في آخر حياته متتابعاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن الله تعالى تابع على رسوله صلى الله عليه وسلم الوحي قبل وفاته حتى توفاه، أكثر ما كان الوحي، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد.[4]
1-على من يتنزل الوحي: على من اختاره الله تعالى اصطفاءً ومِنّةَ منه تعالى وهم من خير خلق الله تعالى وأرحمهم، ورد أن موسى عليه السلام قال : “يا رب بم اتخذتني كليما” ؟ فقال الله تعالى له: أتذكر إذ ندّ (ابتعد) من غنمك جدي فأتبعته أكثر النهار وأتعبك، ثم أخذته وقبّلته وضممته إلى صدرك وقلت له: أتعبتني وأتعبت نفسك، ولم تغضب عليه؛ من أجل ذلك اتخذتك كليما.[5]
-وأوحى الله إلى موسى أتدري لم اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي؟ قال: لا يا رب. قال: إنه لم يتواضع لي تواضعك أحد،[6] وفي رواية: ” اطلعت على قلوب عبادي فلم أجد قلباً أصفى لمودتي من قلبك يا موسى”.
2-أنواع الوحي:
أ-وحي النبوة والرسالة للأنبياء والرسل، وذلك بواسطة الملك على قلب النبي والرسول والوحي، هو في الأصل الإشارة والإعلام الخفي، ويطلق على تبليغ الله تعالى رسالته لمن يصطفيه من عباده، على لسان بعض ملائكته، وهو جبريل عليه السلام، كما تطلق كلمة الوحي أحيانا على الشيء الموحى به، وعلى الإلهام والقذف في القلب يقظة أو مناما.
قال تعالى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ}، {2} (سورة يونس ).
– نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ {3} (سورة يوسف).
والوحي هنا هو الكلام بإخفاف وخفاء يقذف في القلب ولا يسمعه الجليس ويدخل في الأحاسيس والمشاعر كلام منزه عن الصوت والحروف يسمع من الجوانب كافة، فتسمع الروح من الكون كله دون تحديد مكان معين أو صوت مسموع.
-ح : (قال موسى: يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك فإني أحس حس صوتك ولا أراك فأين أنت؟ فقال الله:أنا خلفك وأمامك وعن يمينك وشمالك، يا موسى أنا جليس عبدي حين يذكرني وأنا معه إذا دعاني).(كما ورد عن موسى عليه السلام:سمعت ربي من الجوانب الست). قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى {13} إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، {14} (سورة طه).
وقد يتمثل الملك بصورةٍ من صوره أو على صورة آدمي كما جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه :(شديد بياض الثوب شديد سواد الشعر…)[7].
ب-وحي الإلهام على من أحب الله تعالى من الصديقين والبشر: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ {7} (القصص).
– وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ {111} (المائدة).
ج-وحي الغريزة على مخلوقات الله البهيمية: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ {68} ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {69} (النحل).
د-وحيه تعالى للجماد كالسماء والأرض: إذا زلزلت الأرض زلزالها..يومئذٍ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها..ومعنى الوحي في مجملها أمره جل وعلا.
{11} فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {12} (فصلت).
هـ – وحيه تعالى لمن يشاء من خلقه كالملائكة مثلاً:-إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ {12} (الأنفال).
3-الوحي يشمل القرآن الكريم والسنة المطهرة قولاً وفعلاً: والوحي يأتي بالقرآن وبغيره من أمر الله ونهيه ومن توجيه لنبيّه وأتباعه، ففي الحديث: “إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب، رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب..”.[8]
فإذا كان الوحي قرآناً كان المبنى والمعنى من الله تعالى وليس للنبي فيه أدنى تصرف، وإذا كان المعنى والمبنى من الله تعالى لكن من غير القرآن الكريم يلقيه الله تعالى في قلب نبيه سمي حديثاً قدسياً، وإذا كان المعنى من الله أو بما يوافق كلامه تعالى والمبنى للنبي صلى الله عليه وسلم سمي حديثاً شريفاً ، تشريفاً للحديث النبوي عن سائر كلام الناس.
وأخرج الدارمي عن يحيى بن أبي كثير قال: كان جبريل ينزل بالسنّة كما ينزل بالقرآن.
4-وصف الوحي ثقله وصوته وشدته:
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس (صوت الحديد)، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا، فيكلمني فأعي ما يقول “. إذ لا يغيب النبي عن وعيه ولا يفقده، وقالت عائشة رضي الله عنها: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد عرقا).
وكان يسمع له غطيط كغطيط النائم وهو صوت النفََس الشديد المتردد من النائم أو المغمى، من شدة ثقل الوحي، أو كان يسمع عند وجهه كدوي النحل : والدوي صوت لا يفهم منه شيء وقيل هو ما يشبه الصوت الذي يصدر عن جبريل عليه الصلاة السلام يبلغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ولا يفهم الحاضرون من صوته شيئاً.
ويروي الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري أحد كتاب الوحي عن ثقل الوحي يقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله}. قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان رجلا أعمى، فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله عز وجل: {غير أولي الضرر}.
5- إظهار الصحابة للوحي عند نزوله وتعظيمهم له:
قال الصحابي يعلى لعمر رضي الله عنهما: أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه. قال: فبينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، ومعه نفر من أصحابه، جاءه رجل فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة، وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى، فجاء يعلى، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به، فأدخل رأسه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه، وهو يغط، ثم سري عنه، فقال: (أين الذي سأل عن العمرة). فأتي بالرجل، فقال: (اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك). الغطيط، وهو صوت معه بحوحة كشخير النائم، وكان يصيبه هذا من شدة الوحي وثقله.
6-الوحي أمانة غالية وحساب من تلاعب به عسير: لكن كل ما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حقاً لا يداخله ظن ولا هزل ولا باطل، قال الله تعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل مما لم يُنزل عليه الوحي، فيقول: (لا أدري). أو لم يجب حتى يُنزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا بقياس.[9]
لقوله تعالى: {بما أراك الله} /النساء: 105/. وقال ابن مسعود: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح فسكت، حتى نزلت الآية.- {أنزله بعلمه} /النساء: 166/-وعن عائشة قالت:
من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول: {يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته}(سورة المائدة ،الآية 67 ).
وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا أقول إلا حقا، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله، قال:إني لا أقول إلا حقا”.[10]
وقال الله تعالى في ذلك:{ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} (سورة يونس الآية 15). وعقوبة التلاعب بالوحي وردت في سورة الحاقة حازمة مرعبة. الآيات: 44 – 46 {ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين}.( والوتين هو نياط القلب منه يخرج الدم إلى العرق والمعنى لقتلناه).
-خاتمة:
ذكرنا في هذا السياق غيض من فيض حول الوحي على قلب رسول الله لكي يزداد إيمان القارئ ويعرف كيف يرد على المشككين والمنتقدين، فلا يمكن لهذا النبي المتزن الرزين العاقل الحكيم ذي البدن الصحيح والعقل السليم أن يكون مصاباً بلوثة في عقله أو أن يكون الوحي إليه ناجم عن خواطر نفسية، فقد دافع عنه ربّه جل وعلا بقوله إن هو إلا وحي يوحى وها هي علامات الإعجاز تتالى لتثبت أن القرآن تنزيل من لدن حكيم عليم.
لكن الأهم عندنا هو: ماذا بقي للمسلم بعد انقطاع الوحي؟ أي بعد وفاة رسول الله؟ بقي القرآن الكريم وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرؤيا الصالحة رسائل من المولى تعالى لعباده تبشيراً وتحذيرا.والحديث: ” إذا أحب أحدكم أن يحدث ربه فليقرأ القرآن”. فمن تمسك بكلام الله نجا ومن تجاهل خيف عليه من التيه والشتات وذلك هو الخسران المبين.
-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لم يبق من النبوة إلا المبشِّرات). قالوا: وما المبشِّرات؟ قال: (الرؤيا الصالحة).
[1] فتح الباري، شرح صحيح البخاري، للإمام ابن حجر العسقلاني، المجلد الثاني عشر، كتاب التعبير، باب أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ.
[2] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، ص458.
[3] تحفة الأحوذي، شرح جامع الترمذي، لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري، باب سورة المدثر.
[4] صحيح البخاري، الجزء الثالث، باب: كيف نزول الوحي، وأول ما نزل،4697.
[5] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، في تفسير الآية 164 من سورة النساء.
[6] السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، تفسير الآيتين 144 و145 من سورة الأعراف وأخرجه أبو نعيم في”الحلية” بلفظ: ” لأنه لم يتواضع لي أحد قط تواضعك”.
[7] صحيح مسلم، ج1، كتاب الايمان.
[8] كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للإمام إسماعيل العجلوني الجراحي، حرف الهمزة مع النون.
[9] فتح الباري، شرح صحيح البخاري، للإمام ابن حجر العسقلاني، المجلد الثالث عشر. كِتَاب الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
[10] الأذكار، للإمام النووي، باب المزاح.