باسم وحيد الدين علي
نضيف إلى ما مر معنا في العدد السابق أن التفسير اصطلاحًا هو البحث عن مراد الله تعالى من محكم تنزيله بقدر الطاقة البشرية[1].
ولا يعرف مراد الله تعالى حقًا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك حرص الصحابة والتابعون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم على تتبع الحفظة والكتبة والمقربين من الصحابة لمعرفة ما غاب عنهم وما كان القصد من كل آية وسورة. فقد أجهد ابن عباس رضي الله عنهما نفسه لكي يفهم من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه من من ازواج النبي قصد الله تعالى بالآية {ان تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} حتى حج معه وعلم منه ما يريد[2].
وبعد ان استعرضنا في العدد الماضي أشهر طرق التفسير ومؤلفاتها بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي بقيت بعض طرق التفسير التي تناولت جوانب من القرآن الكريم بعضها متعلق بالإشارات والتجليات القلبية وأخرى بالاحكام الفقهية ونختم بما انتهى إليه علماء التفسير في العصر الحديث:
1- التفسير الإشاري: ويدعى أحيانًا بالتفسير الصوفي، لما فيه من الاستنباطات الروحية والسلوكية شرط ألا يتعارض مع الفهم اللغوي أو يناقض شيئًا مما ورد في الكتاب والسنة.
ومن ذلك على سبيل المثال ما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه…) أي تضايقوا من وجوده لصغر سنّه، فدعاه عمر يومًا ليريهم فقهه ونباهته فسألهم عن تفسير سورة النصر فجاء تفسير بعضهم لغويًا محضًا. ثم توجه عمر إلى ابن عباس فقال: (اكذاك تقول يا ابن عباس؟) فقلت: لا قال: فما تقول؟ قلت: اذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك، فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابًا. فقال عمر: ما أعلم منها الا ما تقول).
ومن أهم كتب التفسير الاشاري:
– تفسير القرآن العظيم للتستري.
– لطائف الاشارات للقشيري.
لكن هذه التفاسير لا تعدو كونها إشارات متقطعة في آيات معينة ولا يمكن تفسير القرآن الكريم كله بطريقتها مما يجعلها متناثرة في لطائف ومعانٍ بين دفتي القرآن. ولا يقدر عليها الا أهل المعرفة بالله ولا يستحسن لأيٍ كان الخوض فيها لدقتها وصعوبة استخراج إشاراته وخوفًا من المبالغة والخطأ والشطط.
2- التفسير الفقهي:
أهمية هذا النوع من التفسير أنه يعنى بدراسة آيات الاحكام ويستنبط منها الاحكام الشرعية المناسبة، ويتطلب من المفسر ان يكون ذا علم غزير وعقل وفير وورع وتدبير لما في استنباط الاحكام من دقة وأهمية.
وليس التفسير الفقهي غريبًا عن الاسلام والمسلمين اذ بدأ منذ الهجرة المباركة حيث كانت آيات القرآن تنزل بأحكام في مجالات متعددة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوها ويعززها بالشروح والاستكمال. وصار بعض الصحابة أكثر من سواهم تخصصًا في هذا المجال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيل بعض السائلين إلى الصحابة هؤلاء لكي ينبّه المسلمين إلى ما بلغوه من علم وفقه ولعلهم يعودون إليهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. ومنهم زيد بن ثابت في الميراث وعبد الله بن مسعود وابي بن كعب في القرآن وعلي بن أبي طالب في الاستنباط والقياس رضي الله عنهم أجمعين.
ومن أشهر التفاسير الفقهية:
– احكام القرآن لأبي بكر الرازي (الجصاص).
– الجامع لاحكام القرآن للقرطبي.
3- التفسير في العصر الحديث:[3]
منذ أن وطئ الاستعمار أرض البلاد العربية والاسلامية أخذ مثقفوه ومستشرقوه يسعون للنيل من الدين بكافة أوجهه وفي طليعتها القرآن الكريم، محاولين التشكيك به جملةً وتفصيلاً. وحاولوا ان يدحضوا ما جاء به عن طريق ما اكتشف في عصرهم من الاكتشافات العلمية البدائية ومعتمدين على عقلية مادية تجاهلت الروح والقيم والايمان. وكان من الطبيعي أن يتصدى لمثل هذه النظريات عدد جم من علماء الأمة وفقهاؤها فنجحوا في كثير من المواقف وتصدى معهم نفر آخر حاول الرد على المادي بالمادي وتنصّل عن جهل وقلة علم من المفاهيم الروحية لهذا الدين فجاءت ردودهم أضعف من حجج المشككين والمضللين.
ولا ضرورة للتفصيل في هذا المجال مع الاكتفاء ببعض الأمثلة منها إنكار معراج النبي صلى الله عليه وسلم وإسراؤه جسدًا وروحًا بل جعلوها منامًا، وأن الطير الأبابيل التي رمت جيش “أبرها” الذي قصد الكعبة المشرفة كانت مرضًا جلديًا أشبه بمرض الجدري. وأن إحياء الموتى على يد بعض الأنبياء لم يكن إلا تحضيرًا للأرواح وهكذا…
لكن سرعان ما رفضت الأمة بعلمائها وعامتها مثل هذه التفاسير وأهملتها وسرعان ما ظهرت تفاسير أكثر حداثة اتسم بعضها بالمنهجية، والآخر بالأدبية والاجتماعية وأخرى بنفحات علمية وأخرى موضوعية بحسب المواضيع المتطرق إليها.
وفي أيامنا الحالية نجد أن الحديث من التفاسير المعتمدة هو الذي يغلب عليه تفسير المعاني ويشرح في الوقت عينه أسباب النزول وفقه الاحكام. ويستند في التفسير إلى ما يؤكده من الحديث الشريف من أقوال أجلّة العلماء، كما يعزز الحجة بما توصلت إليه الاكتشافات الحديثة المثبتة علميًا من قبل خيرة علماء العالم من مسلمين وغير مسلمين.
وفي الختام فان تفسير القرآن الكريم في كافة وجوهه أمر يقرب من الاستحالة فهو كلام الله المعجز، لكن الموفق هو الذي يوغل فيه برفق فيحسن مخارج الالفاظ والحروف ويفهم المعاني ويتدبر المقصود حتى تتمكن آثارها من أن تستقر في روعه فتعزز ايمانه وتزيد يقينه وترفع همته وتوسع إدراكه.
صار من السهل على كل مثقف ومطلع أن يدرك بعقله ووعيه وتبصره أن كلامًا يتداوله الناس منذ ألف وأربعمائة سنة لم يتغير ولم يتبدل، لا تنقضي عجائبه ولا تبلى جدّته، والايام تثبت صحة أحكامه هو كلام الله المنزل وليس بكلام أحد من العالمين، ارتضاه الله للناس وجعل في تطبيقهم له صلاح حياتهم وآخرتهم.
[1] الزرقاني، مناهل القرآن، ج1 ص471.
[2] مسند الامام أحمد ابن حنبل ج1 ص 352-353.
[3] د. نور الدين عتر، علوم القرآن ص 110.