أ.باسم وحيد الدين علي
يخاطب الله تعالى البشر، على تنوعهم، ترغيبا وترهيبا، حباً وملامة، تنويرا وتحذيرا. وهو الذي يعلم من خلق، فبعض الناس يبحث عن السلام والطمانينة ولا يجدها. وآخرون غافلون لا تنبههم إلا آيات الإنذار، وبعض ثالث يؤخذ بالعاطفة لرقة أحاسيسه ورهافة مشاعره. وبعض رابع صار لا يرى بالحياة رغبة إلا إذا كانت تحقق رضى ربه، وصار لا يطيق أن يراه الله على غفلة ولو كانت قصيرة، فعاش على حذر شديد.
ويوجّه القرآن الكريم عنايته إلى كل نوع فيخاطب كلا على قدر فهمه واستيعابه واستقامته أو غيّه. فالذي يخاطِب هو الذي خلق سبحانه، يعلم كيف يؤثر بمن خلق، هي آيات تلفت نظر القاريء وسمع السامع ، تخاطب المجتهد واللاهي، والغافل والصاحي، والمطيع والعاصي وكل يفهم بطريقته الخاصة مع أن الكلام واحد.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى: (ما أظن امرءاً سليم الفكر والضمير يتلو القرآن أو يستمع إليه ثم لا يزعم أنه لم يتأثر به. والسبب أنه ما من هاجس يعرض للنفس الإنسانية من ناحية الحقائق الدينية إلا ويعرض القرآن له بالهداية وسداد التوجيه. إن القرآن الكريم بأسلوبه الفريد يرد الصواب إلى أولئك جميعا، وكأنه يعرف ضائقة كل ذي ضيق، وزلة كل ذي زلل، ثم تكفل بإزاحتها كلها، كما يعرف الراعي أين تاهت خرافه، فهو يجمعها من هنا وهناك، لا يغيب عن بصره ولا عن عطفه واحد منها…).
فما الذي تفعله هذه الآيات الكريمة في نفوس سامعيها أو قارئيها؟ هاكم بعض الأمثلة:
أخرج البخاري من حديث جبير بن مطعِم أنه قال « سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ {35} أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ {36} أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ {37}. (قال جبير): كاد قلبي أن يطير » .
وكذلك كان الباعث لعمر بن الخطاب ، على دخوله الإسلام ما سمع في بيت أخته فاطمة، رضي الله عنهما من القرآن قوله تعالى: {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى…}. فكان جوابه التلقائي: (لا ينبغي لمن هذه آياته أن يكون له شريك يعبد معه، دلوني على محمد).
فكيف يمكن لمن له قلب وعقل أن لا ينصت إلى قوله تعالى في سورة الحشر:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} {21}.
وكيف يشعر من يتمتع بالحس والمشاعر عند سماعه قول الله تعالى في سورة الزمر: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } {23}.
وماذا يفعل معاند بعد سماعه قول الله تعالى في سورة الإسراء: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا }{41}.
ويقرع القرآن الكريم أسماع المكابرين فيؤنبهم تأنيب الراغب إليهم المحب لهم الحريص على تبليغهم فيقول في سورة البقرة: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {74}.
من الآيات ما يهز المشاعر، ويوقظ الأحاسيس، أو ينشط الهمم، وما يخترق حجب النفس أو ينفذ إلى القلب أو يحرك العقل أو يعزز الثقة بالله أو يفتت القلب القاسي أو يستدر العواطف كقول السيدة مريم حين شعرت باقتراب الولادة: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا {23} فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا {24}.
وهل يملك الانسان دموعه حين يسمع قصة نقل إبراهيم لبعض أهله من فلسطين إلى جوار المسجد الحرام:{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ {37}.أو حين همّ إبراهيم بذبح ولده عليهما السلام.
وما يدفع الانسان إلى الوعي والإدراك قوله تعالى في سورة التوبة: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {109}. فيسعى العبد بعد ذلك وراء الحكمة والحكماء، والعلم والعلماء والفقه والفقهاء.
وهل يتردد في اتخاذ القرار المصيري بتغيير نمط الحياة وهدف الحياة، إذا سمع خطاب الله تعالى لعباده في سورة الحديد: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ … فقد كانت هذه الكلمات سبباً في توبة عدد من اولياء الله منهم مالك بن دينار وعبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض، وكثير من المشاهير الذين حفلت بهم كتب التاريخ. وعن نافعٍ أن ابن عمر كان إذا قرأ هذه الآية بكى حتى يغلبه البكاء.
ومن تحريك القرآن للفطرة في الإنسان، ما جاء في تفسير الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي، حيث روى الأصمعي أن أعرابياً سلّم عليه في الحرم وأخذ بيده وقال: اتل عليّ كلام الرحمن، قال الأصمعي: وأجلسني من وراء المقام فقرأت “والذاريات” حتى وصلت إلى قوله تعالى: “وفي السماء رزقكم وما توعدون” فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم؛ يقول الله تبارك وتعالى: “فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون” قال فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟
والعجيب في الأثر النفسي للقرآن أن بعض من يرد الله بهم خيرا ممن لا يعرفون اللغة العربية، يشعرون بدفء كلام الله تعالى في قلوبهم من غير فهم، فهناك وقع لكلام الله تعالى في النفوس لم تكشف أسراره بعد.
هذه آيات الله تتالى بأنماط متنوعة تأخذ بلب السامع والقاريء، فإذا تجاوز موعظة منها تلقفته الموعظة التالية باسلوب مغاير ولا بد إن كان ذا لب أن يقع أسيراً في هوى كلام الله فيتعظ ويتوب ويستقيم، إلا أن يكون من المصرين المستكبرين. قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82].