بقلم أ.ع.
بسم الله الرحمن الرحيم
موعدنا في هذا العدد، مع الصلوات النافلة التي كان النبي العظيم وصحابته الكرام يتقربون فيها إلى الله تعالى، وجم غفير ممن أتى بعدهم من المسلمين، بعد أداء صلوات الفريضة والسنن الرواتب، والصلوات النافلة تطوعٍ يتم بعضها في الليل وبعضها في النهار، تزيد المسلم إيمانا واطمئنانا، يؤديها المسلم الذي أتم الصلوات المفروضة وبات يشعر أنه بحاجة للمزيد.
1-من فوائدها: أنها تؤدي إلى إصلاح علاقات العبد:
أ- ما بينه وبين ربه، لقوله تعالى في سورة العلق : {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ {19}.
ب- وما بينه وبين نفسه، لما فيها من فائدة في ضبط العبد لغرائزه ولنوزاع نفسه، والله تعالى يقول في سورة العنكبوت : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}. ولما تحدثه من اتزان في شخصية العبد واستقرار نفسيته، كما جاء في سورة المزمل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}.
ج- وما بينه وبين نبيّه، صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث الصحيح: “من رغب عن سنتي فليس مني”.
2-القيام فريضة أم سنّة؟ نتعلم من الأسوة والقدوة صلى الله عليه وسلم، كيف كان يؤدي الصلوات النافلة في الليل والنهار ومعه بعض أصحابه. وفي ذلك إشارة لمن يجزم بأن النوافل كانت فرضاً على رسول الله فقط، ولا تلزم أحداً غيره، محتجاً بقول الله عزّ وجلّ في سورة الإسراء : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا {79} ونرد عليه بأنها تعني جميع المسلمين كمثل قوله تعالى في سورة النحل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {98}. ومصداق ذلك في قوله تعالى في سورة المزّمل: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ …}، فشملت الآية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه، وسائر المؤمنين من بعدهم تخفيفاً بقوله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}. وصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة. لكن النبي صلى الله عليه وسلم نسب قيام الليل إلى شرف المؤمن فقال:”شرف المؤمن صلاته بالليل وعِزُّه استغناؤه عما في أيدي الناس”.[1]
3-مكان ووقت قيامه صلى الله عليه وسلم: كان أغلب قيامه صلى الله عليه وسلم للصلاة النافلة في أول النصف الثاني من الليل، وفي بيته، سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن ذلك فقالت: ( إذا سمع الصارخ)[2]، والصارخ هو الديك وعادته أن يصيح حوالي منتصف الليل. وقد أوصانا صلى الله عليه وسلم أن نصلي الفرض في المسجد والسنن في البيت كي لا تصبح بيوتنا كالقبور، ليس فيها عمل إلا النوم. كما أن الصلاة في البيت حيث لا يرانا الناس تأتي أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء.
4- مدة قيامه صلى الله عليه وسلم: كان صلى الله عليه وسلم يقوم، كما جاء في سورة المزمل، كثيراً من الليل ونصفه، وثلثه. وكان يقول:-ح:”أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام…كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه وينام سدسه…”[3].
5-فإذا استيقظ: كان صلى الله عليه وسلم يمسح النوم عن وجهه بيده ويرفع رأسه إلى السماء ثم يكبر عشرا ويحمد عشرا ويقول: “سبحان الله وبحمده” عشرا، ويقول:”سبحان الملك القدوس” عشرا. وكان يدعو:”اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة”. ثم يفتتح صلاته[4] .
6-هيئة صلاته صلى الله عليه وسلم:
كان أكثر صلاته قائماً، وكان إذا صلى (أي قرأ) قاعداً، ركع قاعداً، وكان أحياناً إذا قرأ قاعداً وبقي يسيرٌ من قراءته الطويلة قام فقرأ الآيات الأخيرة الثلاثين أو الأربعين ثم ركع قائماً. وكان الغالب على عدد ركعاته إحدى عشر أو ثلاث عشرة ركعة[5].
وفي الحديث: صلاة الليل مثنى مثنى،(أي ركعتان ركعتان)، وتشهّد في كل ركعتين، وتبأّسٌ وتمسكن، وتقنّع بيديك (رفعهما للدعاء)، وتقول: اللهم اغفر لي. فمن لم يفعل ذلك فهو خداج” (أي نقصان)[6].
7-استفتاحه لصلاة الليل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل في استفتاحه لصلاة الليل، ومما كان يقوله:
-“الله أكبر (ثلاثاً)، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة”.
-“اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، إهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم”.
-“اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق ووعدك الحق، وقولك الحق ولقاؤك حق، والجنة حق والساعة حق”.
-“اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت.
8-قراءته في صلاة الليل: كان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في صلاة الليل ويطيل الركوع فيها والسجود، ويكثر من الدعاء في سجوده.
فقد روى مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح بسورة البقرة، فقلت يركع عند المائة ثم مضى، فقلت يصلي بها ركعة، فمضى فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ. ثم ركع …، فكان ركوعه نحواً من قيامه،(أي استغرق المدة التي استغرقتها التلاوة)، ثم قال “سمع الله لمن حمده”، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع ثم سجد…، فكان سجوده قريباً من قيامه.
وعن عائشة رضي الله عنها، في وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل: يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حُسنِهنّ وطولهن، ثم يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حُسنِهِنَ وطولهن، ثم يصلِّي ثلاثاً [7].
وكان في بعض الأحيان يطيل القراءة إما بتكرار سورة قصيرة أو بالقراءة ترتيلا (حتى تكون أطولَ من أطولَ منها )، كما ورد عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها. وَقَامَ لَيْلَةً تَامّةً بِآيَةٍ يَتْلُوهَا وَيُرَدّدُهَا حَتّى الصّبَاحَ وَهِيَ { إِنْ تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ } [ الْمَائِدَةُ 118 ] [8] .
ولئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السور الطوال في صلاة الليل فلأنه أحب الصلاة حيث قال:”وجعلت قرة عيني في الصلاة”، لكنه نصح المسلمين بأن لا يتكلفوا ما لا يطيقون، فقال:-ح: “خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا”. على أن تكون لهم من الليل صلاة يثابرون عليها ولو كانت قليلة، وفي ذلك تقول أم سلمة رضي الله عنها:(وكان أعجب العمل إليه، صلى الله عليه وسلم، الذي يدوم عليه صاحبه وإن كان يسيرا).
9- من دعائه في سجود الليل:
-” اللهم اغفر لي ذنبي كلَّه، دقَّه وجلَّه، أوله وآخرَه، سرَّه وعلانيتَه”.
-“سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت ، اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك”.
-” اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، واجعل لي نورا، أو قال واجعلني نورا، وفي رواية واجعل في نفسي نورا، وأعظِم لي نورا…”.
-” اللهم إني أسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري، وتلمّ بها شعثي وتردّ با غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكّي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمني بها من كل سوء”.
-“اللهم إني أسألك الفوزَ في القضاء، ونُزُلَ الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء. اللهم إني أُنزِل بك حاجتي وإن قصُر رأيي وضعُف عملي، وافتقرت إلى رحمتك، فأسألك يا قاضيَ الأمور ويا شافيَ الصدور، كما تجير بين البحور، أن تجيرني من عذاب السعير ومن دعوة الثبور ومن فتنة القبور.
اللهم ما قصُر عنه رأيي، ولم تبلغه مسألتي، ولم تبلغه نيتي من خيرٍ وعدته أحداً من خلقك، أو خيرٍ أنت معطيه أحداً من عبادك، فإني راغب إليك فيه، واسألك برحمتك يا رب العالمين.
-“اللهم يا ذا الحبل الشديد، والأمر الرشيد، أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود، مع المقربين الشهود، الركّع السجود، الموفين بالعهود، إنك رحيم ودود، وإنك تفعل ما تريد”.
-“الله اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالّين ولا مضلّين، سلماً لأوليائك، حرباً لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك، اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، ومنا الجهد وعليك التُّكلان.
10-إذا فاتته صلاة الليل: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته صلاة من الليل من وجعٍ أو غيرِه، صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة). وكان يتمها قبل الظهر.
وفي الحديث:”من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل” [9].
11-نوافله صلى الله عليه وسلم في النهار:
أ- صلاة الضحى: كان صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً (عن عائشة) ويزيد ما يشاء، فصلاها ستاً (عن أنس) وثمانية (عن أم هانيء بنت أبي طالب)، واثنتي عشرة ركعة (عن أم سلمة) رضي الله عنهم أجمعين. وأوصى المسلمين بما أقله ركعتين، فقال صلى الله عليه وسلم: “يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم صدقة، فله بكل صلاة صدقة، وصيام صدقة، وحج صدقة، وتسبيح صدقة، وتكبير صدقة، وتحميد صدقة، ويجزئ أحدكم من ذلك ركعتا الضحى”[10].
ب- نوافله بين المغرب والعشاء:
عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: (رأيت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بعد المغرب ست ركعات) والحديث: “من صلّى بعد المغرب ست ركعات غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر”. وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يتابع صلاة النفل بعد المغرب حتى العشاء، كما ورد عن حذيفة رضي الله عنه.
ولا يعرف مقدار هذه النوافل وعظيم أثرها في الدنيا قبل الآخرة كمثل من أداها وواظب عليها أو واظب على أقلها، وكان بعض الصحابة يقول: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار[11]، إذ فيها من الصفاء والسكينة وترسيخ الاعتقاد وحلو المناجاة والشعور بالقرب والأنس والحب، ما يجعل الناس يتساءلون عن سر فلاح القائم بها، وقوة شخصيته وسرعة بديهته، وحلو معشره. ولا يصدقون أنها من ثمرات المواظبة على مثل هذه النوافل. ورحم الله من قال: (من ذاق عرف، ومن عرف اتصف، ومن اتصف نال الشرف).
[1] أخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان عن سهل بن سعد والبيهقي في شعب الإيمان عن جابر وأبو نعيم في الحلية عن علي.
[2] عن عائشة، متفق عليه.
[3] عن ابن عمرو، متفق عليه.
[4] رواه أبو داود في سننه عن عائشة.
[5] عن عائشة، وابن عباس وصفوان بن المعطل، وعبد الله بن قيس رضي الله عنهم ‚.
[6] أخرجه أحمد في مسنده وصحيح مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن المطلب بن وداعة.
[7] أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة.
[8] زاد المعاد – (ج 1 / ص 311)
[9] رواه أحمد والدارمي وابن زنجويه عن عمر.
[10] أخرجه الإمام مسلم عن أبي ذر.
[11] أخرجه ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه في كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في فضل قيام الليل رقم (1333).