بقلم أ.ع.
مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تربى يتيماً، فاقداً لحنان الأب ثم الأم، فإن ذلك لم يترك لديه عقداً من الحقد أو القسوة، بل حباه الله تعالى بمنتهى الحب والعطف والرحمة. وكان أكثر الناس رحمة بالناس، قال تعالى فيه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وخص الصغار باهتمام بالغ، في ظل بيئة اجتماعية قاسية، يئد فيها الأب إبنته الوليدة ويهمل ولده لينشأ مع قطعان الماشية، فكانت رحمته للأطفال غريبة مستهجنة لدى الأعراب ومعه تطورت وتحسنت نظرة الناس إلى الأسرة وإلى الطفولة بشكل خاص.
كان يلاطف الصغار ويلاعبهم، قال أنس: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيْنَا وَلِي أَخٌ صَغِيرٌ يُكْنَى أَبَا عُمَيْرٍ وَكَانَ لَهُ نُغَرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَرَآهُ حَزِينًا فَقَالَ مَا شَأْنُهُ قَالُوا مَاتَ نُغَرُهُ فَقَالَ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ[1]
وعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعَلَى ظَهْرِهِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، وَهُوَ يَقُولُ : ” نِعْمَ الْجَمَلُ جَمَلُكُمَا ، وَنِعْمَ الْعِدْلانِ أَنْتُمَا “[2].
وكان صوت بكاء الأطفال يحزنه لما في قلبه من الرحمة، فقد سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ صَبِيٍّ فِي الصَّلَاةِ فَخَفَّفَ الصَّلَاةَ.[3]
ودَخَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ صَوْتَ صَبِيٍّ يَبْكِي فَقَالَ مَا لِصَبِيِّكُمْ هَذَا يَبْكِي فَهَلَّا اسْتَرْقَيْتُمْ لَهُ مِنْ الْعَيْنِ؟ [4]
ولم يكن اهتمامه بالطفولة كلاماً بل كانت أعمالاً تدل على رقة أحاسيسه ومشاعره تجاه الطفولة: فقد خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا فَصَعِدَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ }، رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ ثُمَّ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ[5].
وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي ، فَكَانَ الْحَسَنُ يَجِيءُ وَهُوَ صَبِيُّ صَغِيرٌ ، فَكَانَ كُلَّمَا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَ عَلَى رَقَبَتِهِ وَظَهْرِهِ ، فَيَرْفَعُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ رَفَعًا رَفِيقًا حَتَّى يَضَعَهُ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتَصْنَعُ بِهَذَا الْغُلامِ شَيْئًا مَا رَأَيْنَاكَ تَصْنَعُهُ ، إِنَّهُ ” رَيْحَانَتِي مِنَ الدُّنْيَا ، إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَعَسَى أَنْ يُصْلِحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ “.[6]
وكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مرة وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا[7].
ولما عثر الطفل أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَثَرَ بِأُسْكُفَّةِ أَوْ عَتَبَةِ الْبَابِ فَشُجَّ فِي جَبْهَتِهِ قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة: أَمِيطِي عَنْهُ أَوْ نَحِّي عَنْهُ الْأَذَى قَالَتْ: فَتَقَذَّرْتُهُ قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّهُ ثُمَّ يَمُجُّهُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً (أنثى)، لَكَسَوْتُهُ وَحَلَّيْتُهُ حَتَّى أُنْفِقَهُ [8].
وكان صلى الله عليه وسلم ضنيناً بجبر خاطر الفتيات الصغيرات: روت عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ دَعْهُمَا فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا قَالَ تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ فَقُلْتُ نَعَمْ فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ حَسْبُكِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَاذْهَبِي [9].
ويوم هاجر ودخل المدينة المنورة لأول مرة، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحي بني النجار وإذا جوار يضربن بالدف يقلن : نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الله يعلم أن قلبي يحبكن» [10]
وكان يؤتى بالأطفال حديثي الولادة ليباركهم:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيَدْعُو لَهُمْ (وفي رواية مسلم يبرّك عليهم ويحنّكهم) فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ[11]
وإذا أوتي بالثمر في أول موسمه، كان يدعو للناس ويخص الأطفال بالباكورة منه:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِأَوَّلِ الثَّمَرِ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا وَفِي ثِمَارِنَا وَفِي مُدِّنَا وَفِي صَاعِنَا بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنْ الْوِلْدَانِ[12].
كان صلى الله عليه وسلم يحض الآباء على العناية بأطفالهم: أبي هريرة قال : كان رجل من الأنصار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صبي له ، قال : فجعل يضمه إليه ويرحمه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أترحمه ؟ » ، قال : نعم يا رسول الله ، قال : « فالله أرحم به منك ، وهو أرحم الراحمين »[13].
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل الحسن بن على رضى الله عنهما والأقرع بن حابس التميمي جالس عنده، فقال الأقرع بن حابس: يا رسول الله ان لى عشرة من الولد ما قبلت منهم انسانا قط قال فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ان من لا يرحم لا يرحم[14] .
وعن عائشة رضى الله عنها قالت جاء اعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أتقبّلون الصبيان فما نقبّلهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أملك لك إن نزع الله الرحمة من قلبك[15].
كما كان يوصي الأمهات بأن يعوّدن أطفالهن على الصدق:
أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِنَا وَأَنَا صَبِيٌّ قَالَ فَذَهَبْتُ أَخْرُجُ لِأَلْعَبَ فَقَالَتْ أُمِّي يَا عَبْدَ اللَّهِ تَعَالَ أُعْطِكَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ قَالَتْ أُعْطِيهِ تَمْرًا قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ[16]
تعلمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحوج الناس إلى العطف والرعاية هم الأطفال، لعجزهم عن قضاء حوائجهم ولحاجتهم إلى التربية والإعداد، والطفولة البائسة تحمل بذور الحقد والفساد والانتقام، ومن أراد أن يطمئن إلى مستقبل الأمة عليه أن يهتم بالطفولة ويرعاها حق رعايتها، وكما نبذر ونزرع، نحصد ونجني.
[1] سنن أبي داود – (ج 13 / ص 142) والإمام احمد في مسنده – (ج 24 / ص 240)، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ .
[2] المعجم الكبير للطبراني – (ج 3 / ص 87)، عن جابر رضي الله عنه.
[3] مسند أحمد – (ج 19 / ص 254)، عن أبي هريرة.
[4] مسند أحمد – (ج 49 / ص 460)، عن عائشة.
[5] رواه أبو داود في سننه، والترمذي، والنسائي في السنن وأحمد في مسنده
[6] المعجم الكبير للطبراني – (ج 3 / ص 58)، عن أبي بكرة.
[7] صحيح البخاري – (ج 2 / ص 334). عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد في مسنده- (ج 52 / ص 334)، والبيهقي في شعب الإيمان- (ج 22 / ص 401)، وابن حبان في صحيحه- (ج 29 / ص 149)، عن عائشة رضي الله عنها.
[9] عن عائشة رضي الله عنها،(متفق عليه).
[10] دلائل النبوة للبيهقي – (ج 2 / ص 368) عن أنس رضي الله عنه.
[11] صحيح البخاري – (ج 19 / ص 438) و صحيح مسلم – (ج 2 / ص 135) عن عائشة رضي الله عنها.
[12] صحيح مسلم – (ج 7 / ص 112)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] شعب الإيمان للبيهقي – (ج 15 / ص 166)، عن أبي هريرة.
[14] رواه مسلم في الصحيح عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق.
[15] رواه البخاري في صحيحه عن عائشة.
[16] مسند أحمد – (ج 31 / ص 314)، عن عبد الله بن عامر.