ع.د. محمد فرشوخ
العدد العشرون – شتاء 2012
دخل الطلاب إلى المجلس فوجدوا الحكيم قد سبقهم إليه جالساً مطرقاً مغمضاً عينيه كأنه مستغرق في عالم آخر؛ وما أن أحس بحركتنا حتى اعتدل في مقعده ونظر إلينا مبتسماً متفحصاً متفقداً مردداً: ” ثبتكم الله ثبتكم الله..”.
استفتح كالعادة بالاستعاذة والبسملة والحمد وبالتبرؤ من الحول والقوة وبالالتجاء إلى حول الله وقوته، ثم السلام على الحاضرين داعياً لهم بدوام الإيمان والعفو والعافية؛ ثم قرأ بعضاً من كلام الله تعالى من سورة الزمر، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. ثم قال: لا ينبغي أن نتوقف في القراءة عند هذه الآية بل نتابع كي نفهم شرط التوبة:{ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.
وبدأ يعرض فكرته متسائلاً: إلى أي حد يمكن للمرء أن يتمادى بكفره وغفلته وضلاله؟ وهل أوتي أحدٌ علماً يعرف من خلاله أن جراب معاصيه قد امتلأ وأن صاع شرّه قد طف وأن باب توبته قد أقفل أو يكاد؟ تعالوا نبحث في كتاب الله عزّ وجلّ، عن إجابة شافية لمن طمع في عفو الله ورحمته بعد غفلة ومعصية. فأي الغفلات يغفر وأي المعاصي يمحى؟
نعم إن الله غفور رحيم، ويقبل التوبة عن عباده، ويغفر لمن يشاء، وما منا من أحد أعطي الحق في تأخير نزول رحمته أو منع حصول مغفرته، وهو حق خصّ المولى تعالى به نفسه دون سواه، لكنه وضع للمتمادين حدوداً وللعاصين قانونا.
فاللمم وهي المعاصي الصغيرة تمحى بالاعتذار من الخلق وبالاستغفار من الخالق، ويلتئم جرحها بإقامة الصلاة لقوله تعالى: {أقم الصلاة إن الحسنات يذهبن السيئات}. ومن خاف على نفسه من تكرار المعصية فعليه بمداومة الذكر والصلاة، والله تعالى يقول: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر}.
أما أول المصائب فهو عند توالي المعاصي وإذا بالقلب يتلوث سطحه شيئاً فشيئاً حتى يغلفه السواد، وفي الحديث الشريف: ” إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ:{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }”.(من سورة المطففين)؛ وبعض النكت السوداء قد يمحى وبعضها يبقى أثره إلى يوم القيامة، ومما يبقى اليمين الكاذبة التي تقتطع حق امريء مسلم بغير حق، ومنها أيضاً من انساق في الفتن حين تعرض ولم ينكرها. وكلما زادت الآثام زاد الران حتى يغطي السواد القلب كله فيحجب عن الله ومن ذلك قوله تعالى في سياق الآية السابقة: {كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون}.
ورب إصرارٍ على هوىً استولى على القلب فأسره فأودى بصاحبه إلى الطبع وهو ثاني المصائب، ويطبع الله على قلب العبد إذا أصر على المعصية أو تهاون باداء الطاعة، قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ “. فيهمل صلاة الجمعة بعد ذلك وينشغل عنها فاقداً الشعور بأهميتها وفائدتها؛ والطابع أشد من الران وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : ” اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ طَمَعٍ يَهْدِي إِلَى طَبْعٍ “. فالطابع يطبعه الله تعالى على قلب كل متكبر جبار، وظلوم كفار، ومجتريء على حرمات الله بالمعاصي كفراً وجهارا، وإنكارا لوجود الله وإصرارا ، قال صلى الله عليه وسلم: “الطابع معلق بقائمة عرش الله ، فإذا انتُهِكت الحرمة اجتُرِئ على الرب ، بعث الله الطابع ، فيطبع على قلبه ، فلا يعقل بعد ذلك شيئا “. قال الله تعالى في سورة محمد: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ }.
وإذا طبع على قلب العبد ضاق بالإيمان ذرعا، وود لو لم يسمع الموعظة، وفي أمثاله قال تعالى في سورة الزمر: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ، وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}.
فتراه على عكس ما تتوقع منه يضيق بمجالسة الصالحين ويرتاح إلى العاصين ويتغنى بحجج الكافرين، إذ انشرح صدره للكفر، وفي مثله قال تعالى في سورة النحل:{مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
وممن يطبع الله على قلوبهم، الذين عهد الله إليهم بأمانة الدين فضلوا وأضلوا، واسمعوا قوله تعالى في سورة النساء دفاعاً عن بعض الأنبياء وعن السيدة مريم عليهم السلام: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ، وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}.
ويطبع الله تعالى كذلك على قلب الذي يكفر بعد الإيمان، فقد سنحت له من الدهر فرصة ثمينة فنبذها وارتد عن الغالي إلى الرخيص، قال الله تعالى عنه في سورة المنافقون: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}.
وإذا كان الران قابلاً للإزالة بالتوبة وباجتناب المعاصي، فإن الطابع صار أصعب زوالاً لأن صاحبه غاب عن الوعي وانساق في الضلال واستحب العمى على النور. قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (القلب بمنزلة الكف، فإذا أذنب ينقبض، ثم يذنب فينقبض حتى يجتمع، فإذا اجتمع طبع عليه، فإذا سمع خيرا دخل في أذنيه حتى يأتي القلب فلا يجد منه مدخلا).
والمعصية لا تأتي إلا بأختها أو بأكبر منها، فينجرف العبد في الموبقات ويتمادى بارتكاب المعاصي ويجتريء على الخالق القهار، لا ينافق مرة بل مرد على النفاق واعتاد، ليبلغ المصيبة الأكبر وهي الخاتم، فيختم الله على قلبه وعلى سمعه وبصره، بحيث يؤول إلى سوء المصير ويكتب على نفسه عذاب السعير، قال تعالى عنهم في أوائل سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
وإذا ما ختم على قلوبهم لن يهتدوا بعد ذلك أبدا، قال عزّ وجلّ في سورة الكهف: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}.
وآخر الختم القفل ومن معاني القفل في اللغة الإغلاق وما لا يرجى منه خير، وكأن العاصي كتب نهايته على نفسه بنفسه. يقول الله تعالى في سورة محمد :{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ، إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ}. فصار بينهم وبين الهدى عداوة ونفور، قال تعالى في سورة الإسراء: { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا}.
قال مجاهد: (الران أيسر من الطبع ، والطبع أيسر من الأقفال ، والأقفال أشد ذلك ). بحيث صارت الناس أقرب إلى البهائم في طبائعها منها إلى البشر، قال الله تعالى عن أولئك في سورة الأعراف: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
فتتوقف بوادر الإيمان وتنقطع آمال الهدى ولا ينفع بعد ذلك كلام ولا علم ولا عمل، ولا يتبقى للعبد إلا رحمة تنزل من الله تعالى تفضلاً ونعمةً كما قال تعالى في سورة الجاثية: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون}.
فيا إخوتي، أول الانزلاق في المعاصي والآثام ذنب ربما كان صغيرا أو اعتدنا عليه فألفناه فجرنا إلى المهالك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذكّرنا بذلك ويقول:” ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنا توابا، نسيا، إذا ذكِّر ذكَر”. ولا يغتر أحدنا بعبادته بل يتعلق بفضل الله ورحمته وليبق كل منا على حذر واسمعوا من سورة النور: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}. ثم رفع الحكيم يديه داعياً: (اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب والأبصار صرف قلوبنا إلى محبتك وعقولنا إلى فهم آياتك وأجسادنا إلى طاعتك وطاعة رسولك). واختتم الجلسة.