العميد الدكتور محمد فرشوخ
العدد الحادي والعشرون – ربيع 2012
علت الأصوات في القاعة قبل دخول الحكيم إليها، كان أحد الشباب شديد التعلق بمتابعة الاكتشافات العلمية والأثرية يطرح مسألة أشكلت عليه، تتعلق باكتشاف آثار آدمية تعود إلى عشرات ألوف السنين، بينما ترجح الأقوال السائدة أن آدم لا يرجع إلى أكثر من خمسة عشر ألف سنة على أبعد تعديل.
وصار كلٌ يدلي بدلوه فيما يعرف عن هذا الموضوع، فعدد أحدهم التواريخ التقريبية لظهور أشهر الأنبياء والرسل، فرجح أن الطوفان في عهد نوح يعود إلى تسعة آلاف سنة قبل المسيح عليه السلام، وأن إبراهيم عاش في الألف الثالث ق.م. وأن موسى عاش في أواخر الألف الثاني ق.م. وأن داوود وسليمان عاشا في القرن السابع قبل الميلاد.
وعلق صاحب السؤال مؤكداً أنه تم في القرن المنصرم العثور على آثارٍ بشرية تعود إلى عشرات آلاف السنين، إذ عثر في كهف فرنسي على رسوم جميلة لحيوانات تعود إلى عصور ما قبل التاريخ حددت الأشعة السينية عمر نقشها بخمسين ألف سنة. ثم عثر على جثث بشرية متجمدة في أوروبا وغيرها أكدت الفحوصات المخبرية أن عمر بعضها يبلغ حوالي مئة ألف سنة ثم عثر على أخرى حدد تاريخها بمئتين وخمسين ألف سنة.
واحتدم النقاش بين مؤيد لما حددته المختبرات والآلات العلمية وبين من لايصدق إلا ما جاء في بعض الكتب القديمة وكتب المفسرين، إلى أن دخل الحكيم مبتسماً كعادته فأطفأ لهيب النقاش وسأل بثقة: خيراً إن شاء الله؟ علام هذا الحماس؟ فأخبر بالخبر، فاعتدل في مقعده واستفتح باسم الله وبالصلاة على رسول الله، وقال:
الحمد لله الذي جعل فيكم من يقرأ ويسأل ويحكّم العقل ويخاف على القلب، والحمد لله الذي لم يجعلكم ببغاوات، فلا تكررون ما تسمعون، أو ترددون كلاماً جامداً، أو تنتقدون من ابتغى معرفة المزيد، يقول الله تعالى في سورة طه :{وقل ربي زدني علما}.
الدين الحقيقي هو دين الحقائق، والله تعالى أمر أن نعمِل العقل والقلب والحواس معاً حتى نستجمع الحقيقة، فقال: أفلا تعقلون؟ وقال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [سورة الأعراف: 179] وقال أيضاً: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [سورة محمد: 24]. وفيما يعنيه التدبر، التفهم والمراجعة وإعمال العقل وفتح مغاليق القلب لاستيعاب كلام الرب.
تجدون الإجابة على مسألتكم هذه في بعض آيات من سورة البقرة بدءاً من قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً …} [30]، شرط أن تتدبروها بإعمال القلب والعقل معاً، بالعقل تعلمون العلم وبالقلب تفقهون ما يريده الخالق منا.
تعالوا نستذكر ما وصل إليه العلم أولاً: من الأجناس البشرية الأولى سمى العلماء (الأوموسابيان والنيانتاردال) وغيرها، وهم في الشكل العام بشر لكن في وجوههم وفي مشيتهم علامات تخلف عقلي، وحجم تجويف أدمغتهم أصغر من مثيلهم عندنا، مما يدل على قصور في العقل، وعلى اقتصار نشاطهم على تحقيق الرغبات الغريزية كالبحث عن الطعام بأكل البقول والثمار، وعن الدفء في الالتجاء إلى المغاور، وعن صيد الحيوان ليتعزز بقاؤهم.
وبسبب بهيميتهم قاتل بعضهم بعضاً، كما قتلوا الحيوان، دفاعاً عن النفس، أو ليحظى أحدهم بكهف أو بإمرأة أو من باب البربرية والرغبة بالعيش المنعزل.
من هنا يمكن أن نفهم أن هذا ما رأته الملائكة، قبل خلق آدم عليه السلام، من أصل البشر في القتل وفي تخريب الكهوف، فحين أنبأهم المولى تعالى عن نيته بجعله خليفة في الأرض، قالوا بما علموا:{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}؟ فاجابهم الخالق العظيم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
إذاً خلق آدم عليه السلام كانت له غاية سامية نشعر بأهميتها يومياً، وهي إيجاد خليفة أو أكثر في الأرض، يقيمون عدل الله، يسعفون الناس ليحيوا حياة طيبة، يدلونهم على خالقهم، ويدعون له بالتوحيد.
ولكي يقوم آدم بهذه الرسالة المقدسة، أعطاه العلم ولكي يستوعب هذا العلم متعه بكمال العقل وعلّمه. لكن ماذا علّمه؟ انتبهوا يا أحبتي إلى قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا }، ولم يقل: (وعلم آدم أسماء الملائكة)، فأسماؤهم عليهم السلام جزء من كل، وعلم الله لآدم أوسع وأجلّ، آدم هو أول اسم لبشر يعقلون، هو الجنس الجديد الذي لا يكتفي بالصيد ولا بجلب الطعام ولا بالرسم على الجدران، إنه حامل أقدس أمانة أبى غيره أن يحملها وخاف من عبئها وحملها الإنسان، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ…} [سورة الأحزاب: 72]. والانسان العاقل في شرعنا هو الانسان المكلف، فلا يلام الصبي ولا المجنون ولا المغمي عليه…
ولما كان الصحابة رضوان الله عليهم في شغل عن طرح مثل هذا السؤال، إذ كانوا يحملون الدعوة ويجاهدون ويتفقهون، وقد نهوا عن السؤال والقيل والقال، وإضاعة الوقت الثمين الذي هو عمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في غير منفعة. كان هذا النبي العظيم، يمنعهم من أن يدونوا له حديثاً واحداً كي لا يختلط الحديث بالقرآن الكريم، فتأخر تدوين الحديث إلى ما بعد جمع القرآن ونسخه وإرساله إلى الأمصار.
ومع ذلك فإن حديثاً واحداً ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وضعّف علماء الحديث روايته، يختصر القضية ويحل المسألة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله خلق قبل آدم مئة ألف آدم”. ورحم الله علماء الحديث إذ لم يهملوا حديثاً واحداً سواء صحّحوه أم ضعّفوه، لشدة ورعهم وتقواهم.
أيها الأحبة، نعيش في عصر علمي متقدم جداً، طائرة بلا طيار توجه من الأرض، وصاروخ يعبر القارات، ومركبة فضائية تطوف الفضاء حول الأرض وتهبط في مكان يحدده العلماء، وأقمار تصور ما يجري على الأرض بدقة متناهية، وكاميرات دقيقة تصور ما يجري في العروق وفي الأرحام، فلا يصح بعد اليوم أن ننفي ما أثبته العلم الحديث، نفياً قاطعاً، بل يوضع ما أقره العلم بصورة مؤكدة على طاولة البحث ونعود إلى كتاب الله تعالى ونتدبر معانيه ومقاصده. وهذه مهمة الدعاة في المجتمعات المثقفة كما في البلاد المتقدمة، كي لا ينال المستمعون من كرامة الداعي وكي لا ينال الدين بالهزء والسخرية. إذ أن علامة صحة الدين مطابقة العلوم المؤكدة لما جاء في هذا الدين. لن يفلح في العصر القادم إلا الشيخ العالم أو العالم الشيخ، تماماً كما كان عليه السلف الصالح في القرون المجيدة الأولى، فتعلموا العلم وتدبروا القرآن وافقهوا الحديث واذكروا الله ليفتح على قلوبكم ويكشف عن بصائركم وليثبتكم ويثبت علمكم واحمدوه عزّ وجلّ أن هداكم للدين الحق.