محمد فرشوخ
العدد السادس – صيف 2008
جلس الحكيم بعد صلاة الفجر يردّد وِردَه، وإليه جلست ثلةٌ من الشبان تردد معه، وكان صاحبنا من بينهم. نظر الحكيم إليهم بعين رفيقة وسأل: -ما أنواع النظافة؟ تردد صاحبنا بالإجابة فالسؤال ليس ساذجاً ولعل النظافة المقصودة هنا هي غير نظافة الجسد والثوب والمكان، فآثر الصمت أسوة بالحاضرين وارتسمت على وجهه علامة المتعلم الذي ينتظر المعونة من المعلم. أردف الحكيم بعد إطراقة:يا أحبتي النظافة الحقيقية هي طهارة الداخل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” البِرُّ ما اطْمأنَّت إِلَيْهِ النَّفْس وَاطْمأنَّ إِلَيْهِ القَلْبُ، وَالإِثْمُ ما حاكَ في النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ” وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من وسوسة الصدر وشتات الأمر.
ولتنظيف الداخل على المؤمن أن يتعلم كيف يميّز بين الخواطر التي تراوده، وتنقسم إلى أربعة أنواع: إثنين يحضّانه على الحق والخير، واثنين يسوّلان له الشر واتباع الباطل، فأما خاطر الحق فمصدره الله تعالى ويدعى الخاطر الرباني، وأما خاطر الخير فمصدره الملَك ويدعى الإلهام، وأما خاطر الشر فمصدره النفس الأمارة ويدعى الهاجس بينما خاطر الباطل فمصدره الشيطان ويدعى الوسواس. وفي الحديث الشريف:
-ح:” إن في القلب لمَّتان لمةٌ للملَك ولمةٌ للشيطان فأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، واما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق”.
خاطر الشيطان الوسواس الخناس ، يوسوس ثم يتراجع، يغري بالمعاصي، أي يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف وعلامته تنوع المغريات، كلما رفض العبد إغراءً معيناً خطر له غيره لعله يستهويه. وكله مخالف للشرع ، يوعز بالشر ويأمر بالسوء، قال عنه الله تعالى: ” إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {169} “(البقرة). وكلما كثرت الذنوب تكاثرت خواطر الشيطان ، قال الله تعالى: [كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون]، (سورة المطففين).
وخاطر النفس: يندب إلى اتباع الشهوات وحظوظ النفس، ويكشفه إلحاحها على الخاطر ذاته، وعلامته كدر في القلب، وانقباض في الصدر وضيق في الأخلاق، ومن علاماته العجب والتكبر والحسد والغيرة والتقاعس. ومن ضيّق على النفس أهواءها وميولها ضيّق تلقائياً على الشيطان لأنه غالباً ما يدخل عبرها.
وخاطر الملَك: موافق للعلم والشرع، أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، إيحاء بعمل الخير وتذكير بأهل الصلاح والإيمان وإلهام بأفكار صافية سليمة، وعلامته راحة في النفس وسلامة في الصدر وبهجة فورية تلي عمل الخير. ومن ذلك قول سيدنا عمر رضي الله عنه: ( إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة ).
وخاطر الملك يأمر وينهى وفقاً لما ورد في كتاب الله، إذ أن الأمر الإلهي وقد صدر وأنزل في الكتاب الكريم فإن الملَك هو الذي يتعهده لدى بني آدم.
-والخاطر الرباني الذي من الحق تبارك وتعالى: هو كل خاطر يذكر بعظمة الله وبالتوحيد وبالحب والرحمة، وعلامته الخشوع أو القشعريرة أو الدمعة ولو كرأس الذباب. وهو باب للمغفرة، وفي الحديث الشريف:-ح: “إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما تحات عن الشجرة البالية ورقها”. والخاطر الرباني هو الذي يشعر العبد عبره بمزيد من المعرفة بكلام الله وفهم ما كان يجهل منه وكشف ما غاب عنه من قبل والحكمة من بعض الأمور والحوادث. وقد يأتي على شكل خاطر جلال من الهيبة والخشية، أو خاطر جمال محبةً ورضىً.
ومن كان في قوته حرام أو كان غارقاً في المعاصي عجز عن التمييز بين الإلهام والوسوسة. قال تعالى: “أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا”.
ومن أراد أن يحد من الوساوس الشيطانية فليتعود على الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم وليحافظ على الوضوء وعلى الصلوات المكتوبة، {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، {أقم الصلاة إن الحسنات يذهبن السيئات}، وقد شكا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه شاباً قالوا يسرق ويصلي فقال: “سوف تنهاه صلاته”.
ولمكافحة الهواجس النفسية لا تتم السيطرة على النفس إلا بمخالفتها، وأهم مخالفة هي صيام النهار وقيام الليل لقوله صلى الله عليه وسلم:-ح:”أعنِّي على نفسك بكثرة السجود”. والصلوات المكتوبة محددة العدد، فالكثرة إذن تكون في النوافل وخاصة في القيام والتهجد.
وأما من أراد أن يقوّي إلهامه السليم الرادع فعليه أن يتعهد قراءة القرآن فيتآلف قلبه وعقله وإدراكه مع أمر الله ونهيه في مختلف الظروف والأحوال، حتى يصبح كلام الله مألوفاً لديه تسمعه أذناه ويهتف به قلبه ويستجيب له عند كل تلاوة، فهو أعز وأقدس كلام، فيجب أن يصبح أحب الكلام إليه حتى يصبح بإمكانه أن يلبّي: {سمعنا وأطعنا}.
وأما الخاطر الرباني فليس بيد الانسان، إلا أن يقوي استعداده لتلقيه وفهم مقصوده وذلك بدوام التقرب إلى الخالق:-ح: ” إعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة”. فلا يعرفه إلا إذا أكثر من ذكره فيصبح أقرب وأرحم وأدفأ وأعلم وأرق، وكل أنواع الذكر موصلة وأهمها ذكر السر، ففي الحديث القدسي: ” وإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي”. حتى ينال درجة:
“إذا رأيت عبدي يذكرني فأنا أذنت له بذكري وأنا أحبه”.(حديث قدسي).
ثم خرج الحكيم بالخلاصة: فلينظر كل منا إلى داخله وليلاحظ أهو أسير هواجسه أم وساوسه؟ أو أنه ينعم براحة البال وصدق الحال وبوضوح الرؤيا وبالقدرة على التمييز بين الحق والباطل؟ ومتى عرف المؤمن كيف يميّز بين خواطره كافح خواطر السوء ونمّى خواطر الخير حتى يصبح أمره كله إلى خير، عند ذلك يصبح أهلاً للتلقي ويملك المناعة عند التلاقي فيصبح جديراً بأن يلقح المرضى دون أن تصيبه العدوى.
نظر الحكيم إلى مجالسيه وهو يهم بالخروج وقال: ” أخلوا بأنفسكم ما استطعتم وراجعوا أفكاركم وأقوالكم وأفعالكم، واكثروا من ذكر الله، وتفكروا حتى ينجلي العقل وينشرح الصدر ويتوضح قراركم “. وانتهت جلسة الخواطر.