محمد فرشوخ
العدد الرابع عشر – صيف 2010
مرّت بالشاب أزمة شغلت أحاسيسه وملأت عليه وقته وشغله حتى أنها كادت تطيح بعافيته؛ بحيث غلب الشرود على نظراته والوجوم على قسمات وجهه، أزمة أذهبت بريق عينيه ونضارة وجهه.
احتار في أمره وحيّر معه أهله وذويه. فاستنجدوا بصديق له قديم كان يثق فيه ويُسرّ إليه ويُسَرّ به. ما أن رأى الشاب صديقه القديم حتى جاش صدره وهطلت دمعته، تعانق الاثنان وانحازا إلى زاوية في البيت وبدأ الشاب يذكر معاناته.
أطرق الصديق هنيهة ثم قال: قم معي، قال الشاب إلى أين؟ قال الصديق نقوم بزيارة الحكيم، قال الشاب مستنكرًا: أي حكيم أتقصد الطبيب؟ ليس بي مرض.
قال الصديق: الحكيم هذا هو معلمي الذي أطلق عقلي من عقاله، وسما بقلبي إلى أسمى سماء، وأزاح همومي عن كاهلي وسدد لي خطاي، عرّفني كيف ألجم نفسي، ودلني كيف أرقب حركاتي وسكناتي، لهذا الحكيم فضلٌ عليّ وعلى كثير من الشبان الذين عادوا بعد غياب ووجدوا بعد فقدان، وانتبهوا بعد غفلة، وفقهوا بعد جهالة، واهتدوا بعد ضلالة.
لم يشعر الصديقان بطول المسافة بين البيتين فقد استغرقا في الحديث عن الحكيم الذي تيّم قلب الصديق وعن أخلاقه ومعاملته وفضله على تلامذته ومعارفه وأهله وجيرانه.
كان الشاب المهموم مرتبكًا قلقًا من أسلوب الزيارة ومن لقاء المزور، اذ كيف سيبوح لرجل غريب عما يجيش في صدره وعن لواعج نفسه؟
واذا بالأمر غير ما توقع، فالجلسة عامة، والحضور كثيف، وما هي إلا دقائق حتى دخل الحكيم بوجهه البشوش وابتسامته المعتادة، فسلّم وحيّا ووقف له الحضور احترامًا. وتساءل الشاب المغموم في نفسه عما عسى هذا الشيخ أن يحلّ له من أزمته، فاصطبر، وجلس مع الآخرين بعضهم يستمع وبعضهم يصغي وبعضهم يدوّن ما يسمع.
انطلق الحكيم مذكرًا بعناوين الجلسات السابقة فقال: سبق لنا أن بحثنا في مسائل متعلقة بالإيمان، ومنها حلاوة الإيمان وكمال الإيمان وقمة الإيمان، وعلامات الإيمان وعنوان بحثنا اليوم: جمال الإيمان.
ما سبق ذكره كان فصولاً في الإيمان لكن جمال الإيمان هو ثمرة ما سبق. جمال الإيمان هو ما يشعر به المؤمن بعد النضوج. حين يقارن بين ما كان عليه من قبل وما وصل إليه من بعد، في دنيا ودين.
جمال الإيمان حين ينظر العبد من حوله ويرى التوفيق والرضا في المؤمن وأهله وماله وولده، بينما يرى تعاسة الآخرين وضياعهم، وتفكك أسرهم.
جمال الإيمان هو ذلك الشعور بالسرور عندما يرى الفرج بعد كل شدة واليسر بعد كل عسر، والراحة بعد كل عناء.
جمال الإيمان تعرفه عندما تشعر أن الله الذي تعبده يراك ويسمعك ويرقبك وانك لا تغيب عنه لحظة حتى ولو غبت عنه فتعرف أنك في العناية تنعم وفي الرعاية تعيش.
لا يمكن لتارك صلاة أن يصل إلى هذه الحالة ولا لقاطع رحم ولا لعاق لوالديه، ولا لشارب خمر ولا لمدمن على مخدر أو قمار. ففي الحديث الشريف: “من جعل الهموم همًا واحدًا كفاه الله كل هم ومن تشعبت به الهموم لا يبالي الله في أي وادٍ هلك”.
ثمة أمور يظن العبد أنه قادر عليها، وثمة أزمات يعجز الخلق كلهم عن معالجتها، والمؤمن الواثق من أن الله تعالى على كل شيء قدير مؤمن أنها صعبة على الخلق هيّنة على الله، الذي بيده ملكوت كل شيء.
يقول الشاعر: ما بين غمضة عين وانتباهتها يغيّر الله من حال إلى حالِ.
جمال الإيمان هو عندما يستوي عند الإنسان الفقر والغنى، والمدح والذم، والقبض والبسط، والحزن والسرور.
همه الوحيد أن لا تنقطع صلته بالله وكل ما دون ذلك عارض وقابل للوصل والتعويض. قال عطاء الله السكندري رحمه الله: “يا رب ماذا فقد من وجدك وماذا وجد من فقدك”؟
يقول الله تعالى في سورة الأنعام: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44)}.
جمال الإيمان هو في تلك الثقة المطلقة والطمأنينة الراسخة عندما يؤمن العبد ويوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
جمال الإيمان هو عندما يناجي العبد ربه: “ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي” تأسيًا واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
جمال الإيمان هو عندما يبدأ العبد بفهم حركات الخلق من حوله بشر وحيوان وشجر وثمر، وكأن الله تعالى يحاوره ويذكره {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه}، …فإنك بأعيننا… {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} …إلى آخر الآيات.
جمال الإيمان أيها الأحبة يظهر لكم حين تتغلبون بالله على الأزمات فلا تغلبكم نفوسكم ولا مكائد ظالميكم فتيأسوا وتقعدوا وتحزنوا، وما كيد الظالمين إلا في تباب ولكنكم تستعجلون. لا تقلقوا كما قلق لوط عليه السلام، فقيل له: أليس الصبح بقريب؟
اليأس والقنوط دليل على البعد عن الله وعدم الثقة بأنه على حلّ الأزمات قدير ولئن ترك العبد إلى نفسه هوى وسقط ولربما مرض وانتحر.
وأما من عرف الله في الرخاء فسيتعرف الله إليه في الشدة حقًا. قال تعالى: أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟
أيها الأحبة احفظوا هذا الدعاء المأثور عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: اللهم إني وجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك آمنت بالنبي الذي أرسلت وبالكتاب الذي أنزلت، أستغفرك وأتوب إليك.
جمال الإيمان هو عندما لا تسمح للهموم بأن تتكاثر عليك، فتقضي عليك، بل تحيلها إلى قاضي الحاجات جلّ وعلا، الذي يجعل بعد كل شدة فرجًا وبعد كل عسرٍ يسرًا. قال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود حين رآه مهمومًا: “لا تكثر همك، ما يقدّر يكن، وما ترزق يأتك”.
جمال الإيمان يا أحبابي، هو الثمرة التي تدلك على صواب عملك وسعيك وأنت في الدنيا وقبل الولوج إلى الآخرة. كن مع الله ترى الله معك. وصلى الله على سيدنا محمد وعل آله وصحبه والحمد لله رب العالمين.
انتهت الجلسة وقام الشاب المهموم وكأنما نشط من عقال، قويًا متماسكًا مبتسمًا، قفز إلى صديقه القديم مستبقًا كل حديث: جزاك الله عني خيرًا قم بنا نأكل لقمة فلدينا أعمال كثيرة. وانقضت الأزمة.