العميد الركن المتقاعد الدكتور محمد فرشوخ
العدد الثامن عشر – صيف 2011
إفتتح الحكيم موعظته بالقول: يعرف أغلبنا الحكم الشرعي فيما يرتكبه الناس بحق بعضهم بعضا، بقول الله تعالى في سورة المائدة: … أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ….
ويكتفي بعض الناس بالاعتقاد أن ثواب الحسنة عشر أمثالها وجزاء السيئة مثلها، وكفى، وكأن العلاقة هي فقط بين المرتكب وبين ربه، ويغيب عن بال البعض بأن على المرتكب دين يبقى ولا يغفره إلا المتضررون من الخلق لأن حقوق الله مبنية على المسامحة، والله تعالى يعفو عن كثير. أما حقوق العباد فهي كالدَيْن مبنيةٌ على المشاححة. ولربما ذهبت القاعدة الإلهية أبعد من ذلك فيأتي الثواب والعقاب من نوع العمل ذاته، يقول تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {40} (سورة الشورى). وفي سورة غافر:{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ {40}. وفي سورة النساء: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا {85}. ومعنى مقيتا أي يجزي بالمقدار والعيار المناسبين.
فالله تعالى عليم يعلم ما فعلناه من إحسان أو إساءة. والله حكم وعادل، يثيب على الإحسان ويعاقب على الإساءة. والله تعالى حكيم يريدنا أن نتعلم ونعتبر وأن نتقي العقاب ونتنافس في طلب الأجر والثواب. والله تعالى واسع القدرة لا يعاقب على المخالفة بأية عقوبة كيفما اتفق ولا يثيب على الحسنة بأي ثواب كان، فهو الغني وهو المقدّر فيعطي الثواب من جنس الإحسان، ويحدد العقاب ويقدره من جنس الإساءة المرتكبة.
لنأخذ مثلاً ثواب المحافظ على صلاته وجزاء تارك الصلاة: أقله أن الصلاة تزيد صلة العبد بربه وتقربه إليه تباعاً قال تعالى في سورة العلق: { واسجد واقترب}. وأما من غفل عن صلاته فقد زاد من الله بعداً، وجزاؤه مزيد من الانغماس في الغفلة والشهوات والمعاصي قال تعالى في سورة العنكبوت:{ ..وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر..}.والمعنى أن تارك الصلاة أكثر عرضة لارتكاب المعاصي وأكثر تعرضاً لخطرها من الآخرين.
وثواب الصيام الصحة، لقوله صلى الله عليه وسلم:”صوموا تصحوا”، يصح الجسم وتصح الإرادة والعزيمة. والمعنى أن من لايصوم هو ضعيف مناعة الجسم ضعيف الإرادة حتى ولو تظاهر بعكس ذلك، فإذا أهين أو استضعف كان بلا مقاومة وبلا كرامة.
وأما ثواب الزكاة والصدقات فهو خيرٌ يعمّ ويتضاعف، ومن الرزق ذاته الذي يُتصدق به، قال الله تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {261} (سورة البقرة)، أما إن كان من غير نوع من الصدقة والبذل فالجزاء من النوع المبذول قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {39} (سورة سبأ). وحاشى لله أن يعرف أهل الصدقات في حياتهم فقرا أو عوَزا.
وإذا قرأت القرآن وداومت على قراءته أوجد الله تعالى في قلبك حلاوةً تشدك إليه وفتح على قلبك معانٍ لم تكن لتخطر لك على بال، فتزداد بالقرآن تعلقا وبالله تعالى حبا.
وأما ثواب { لا إله إلا الله}، فأقله إن رددها العبد صادقاً لائذاً بها، أنها حصن وملاذ له في الدنيا وفي الاخرة، ففي الحديث: ” قال الله تعالى أنا الله لا إله إلا أنا من أقر لي بالتوحيد دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي”.
هذا فيما بين العبد وربه، فماذا فيما بين عباد الله؟ والحساب أدق وأشد!
فمن تتبع عورات الناس عوقب بفضح عوراته، يقول صلى الله عليه وسلم:-ح: ” يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لاَتُؤْذُوا المُسْلِمينَ وَلاَ تُعَيّروهُمْ وَلاَ تَتّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنّهُ مَنْ تَتَبّعَ عَوْرَةَ أَخيهِ المُسْلِمِ تَتَبّعَ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبّعُ الله عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ”.
وفي من عيّر غيره استهزاءً وتعالياً، جوزي بالعار ذاته، جاء في الحديث الشريف: -ح: “من عيَّرَ أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله”.وجاء كذلك:-ح: “البلاء موكل بالمنطق، فلو أن رجلا عير رجلا برضاع كلبة لرضعها”. وجاء أيضاً:-ح: “لا تُظْهِرِ الشَّماتَةَ لأخِيكَ فَيَرْحَمُهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ”.
ومن زنى تسلط عليه من يزني بأهله!، قال صلى الله عليه وسلم: -ح:” عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم، وبروا آباؤكم تبركم أبناؤكم…”. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
عفّوا تعفّ نساؤكم في المُحْرَمِ وتجنبوا ما لايليق بمسلمِ
إن الزنى دينٌ فإن أقرضته كان الوفاء بأهل بيتك فاعلمِ
ومن حلل لنفسه الحرام فقد لذة الحلال مع أهله فلا يستطيب مجالسة زوجته.
ومن مكر بالناس أتاه من يمكر به: يقول الله تعالى: { ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله}. ومهما بلغ بالماكر مكره فمكر الله لا يرد، قال تعالى:{ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ {99} (سورة الأعراف)}.
ومن تخلى عن نصرة مسلم وهو مستطيع لا بد أن يدفع الثمن تخلٍ وخذلانا: ففي الحديث: “ما مِن امْرىءٍ يَخْذُلُ امْرَأَ مُسْلِماً في مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضَهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللَّهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، ومَا مِنْ امْرىِءٍ يَنْصُرُ مُسْلِماً في مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَك فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إلا نَصَرَهُ اللَّهُ في مَوْطِنٍ يُحِب نُصْرَتَهُ”.
ومن أعان أعين ومن سَتَرَ سُتِر: وفي الحديث:” “مَنْ نَفّسَ عَنْ مؤمن كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدّنْيَا نَفّسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الاَخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ الله في الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ، والله في عَوْنِ الْعَبْدِ ما كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أخِيهِ”.
وأما الحسد فهو شر كما ذكره الله تعالى في سورة الفلق، وهو حسرة في قلب الحاسد يصيبه قبل أن يصيب الشخص المحسود يأكل قلبه وهو كالجمرة يحرقه في أعماق نفسه، قال تعالى: {حسداً من عند أنفسهم}.
ومن عادى ولياً لله عاداه الله: يقول الله تعالى في الحديث القدسي:” من عادى لي ولياً آذنته بالحرب…”. أي أعلن الله عليه الحرب.
ومن أغلق الطريق على من يدعو إلى الله فإنما أغلق على نفسه باب الفتح وباب الرزق وباب السعادة، فصار كلامه كالحجارة أو أشد قسوة، فكانما قطع الطريق على نفسه قبل أن يقطعها على غيره.
وما افتري على أحد ظلماً إلا نصره الله وباء المفتري بما افترى من الظلم:-ح: ” ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عز وجل عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر”.
ومن صدَق وأكثر من الصدق صدّقه الناس ومن كذّب وأكثر من الكذب كذّبه الناس وسفّهوه ولو حدّث بالصدق يوماً:-ح: ” إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا؛ وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا”.
حتى يصل الأمر في النهاية إلى أن يوصف المرء بنوع عمله: قال تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً {84}(سورة الإسراء).
أنهى الحكيم الجلسة بالقول: ليس الأمر قضية ثواب وعقاب وحسب، بل أن يرى العبد والناس جزاء ما فعل وأن يجعله الله تعالى عبرة، وهنا الدرس والمغزى. يقول تعالى:{ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}. فهو لن يجزى به فقط بل سيكون له منه حظ ونصيب إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ. بعضه يتلقاه في الدنيا وبعضه الآخر في الآخرة، فاتقوا الله يا أولي الألباب، إنما نفعل الخير مع أنفسنا أولاً. وما نكنّ به من شر فعلينا يقع قبل أن يؤذي غيرنا.
قال الله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ {30} (سورة آل عمران).