د. محمد فرشوخ
العدد الثالث والعشرون – خريف 2012
وصل الحكيم إلى المجلس برفقة رجل في الخمسين تظهر عليه علامات الوقار والخبرة، قدّمه الحكيم للحاضرين بالاسم والمهنة والمنصب، وقال: (هذا الرجل هو صديقي منذ الصبا، وقد تآخينا في المسجد ونحن في سن المراهقة وكنا نتبارى في حفظ آيات من القرآن الكريم وما اشتهر من الحديث الشريف. وقد اختار مهنة حفظ الأمن، وهو اليوم قدوة لرجاله في الاستقامة والنزاهة، يكتم الكثير من خفايا الشارع وأسرار البيوت، يحقق في خلفيات الجرائم، ويزور السجون والمستشفيات لاستكمال التحقيقات. أستضيفه اليوم ليحدثكم عن قضايا تشغل باله ويعنيكم أمرها فأرجو الإصغاء إليه ولا تترددوا بعد ذلك في توجيه الأسئلة واستيضاح ما يشكل عليكم).
استهل الضيف حديثه بالسلام والشكر على استضافته واستماح الحاضرين عذراً إذا أطال أو خدشت أخباره الحياء إذ لا حياء في العلم ولا حياء في قول الحق ومما قاله:
أيها الشبان والشابات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما سأقوله اليوم هو بإذن وطلب من رؤسائي الذين هالهم ما وصل إليه المجتمع الذي يسمونه عصرياً وهو إلى التخلف والجهل أقرب، شهادات جامعية ولا ثقافة، لياقة إجتماعية ولا أخلاق، شباب يتحرك بلا أهداف ولا شغل له إلا قضاء وقت فيما حرم الله من ملذات: دخلَت المخدرات إلى بعض المدارس المشهورة، وحين ألقينا القبض على المدرس المروّج، رفض أولياء الطلاب المتضررين تقديم شكوى بحقه تستراً على أولادهم الذين لا يزال معظمهم يتعاطى وبعضهم يروّج بدلاً من المدرس.
إذا خرجتم بعد منتصف الليل في بعض الشوارع الشهيرة تجدون زحمة سير خانقة وشبان وشابات يتهافتون وسط الزحام على تناول المسكرات في بارات صغيرة متجاورة أطلقوا عليها تسمية (Pub)، وهي ليست سوى حانات فوقها خانات.
ما يقلقنا هو أن جيلاً جديداً يتم تسميمه بعبارات رنانة بالإسم، جوفاء بالمضمون: أنا بلغت الثامنة عشرة من العمر أنا حر وأنا حرة! أقنعوها أنها تستطيع أن تخرج من البيت ساعة تشاء وأنها تستطيع أن تسكن في شقة منفصلة عن أهلها، قد تكون بالإيجار وقد تكون لصديق أو صديقة، وأن والداها لا يحق لهما بعد اليوم أن يؤنباها او يعاقباها، وليسخطا عليها بقدر ما يحلو لهما، فهي حرة. هناك جمعيات تتعاون مع جهات خارجية، وتعمل على تسميم أعداد من الشباب ليخرجوا عن طاعة الأهل والدولة والتقاليد باسم الحرية والحقوق.
ماذا يمكن لفتاة في الثامنة عشرة أن تقدم غير جسدها وخدمات الملذات لتغطي مصاريف حياتها المنفصلة، فهي لا تحمل شهادة ولا تملك خبرة في أية مهنة سوى أقدم مهنة لأنثى في التاريخ: البغاء. بماذا يمكن لفتى بلغ الثامنة عشر من العمر أن يغطي نفقاته بمعزل عن أهله إلا بترويج الممنوعات أو بالقوادة أو ببيع جسده للذكور قبل الإناث.
أكثر من ذلك فقد شهدت بلادنا مؤخراً أكبر تظاهرة في الشرق الأوسط لمثليي الجنس من الذكور والإناث، مطالبين بسن قوانين جديدة تتيح ممارسة الرذيلة وزاوج الجنس الواحد والمساكنة غير الشرعية.
حين نعتقل بعض هؤلاء بسبب ارتكابهم إحدى الجنح المذكورة آنفاً، تفاجئنا إجاباتهم، أغلبهم يعتبرها جزءاً من حقه في الحرية، وما علاقة هذه الجنح والانحرافات بالاستقلال والديمقراطية وحرية الرأي وحرية العبادة وحقوق الأقليات، “شو جاب لجاب؟” ، من الذي زرع في عقول هؤلاء الشباب مفاهيم منحرفة مضللة لمباديء الحرية والكرامة، وأية كرامة في ذلك؟ إنهم موقنون بأن ما يفعلونه حضارة، وأية حضارة هذه؟ الحضارة ارتقاء في المستوى الثقافي وبلوغ درجات عالية من المكتشفات والاختراعات، وتحديث البلاد ومكننة الإدارة، وتطوير الصناعة ومعالجة البطالة، وضمان الشيخوخة، وتعزيز الروح الوطنية، وإعداد أجيال تحمل المثل والقيم تبني وتنجز، وما قرأنا لأي من الفلاسفة والمفكرين أن من الحضارة كشف الصدر وتقصير الثوب، وارتياد الحانات وسهرات المجون، ومعرفة أسماء المشروبات الروحية وخلطاتها كافة، وإهمال اللغة الأم، والتحدث بلكنة الفنانات والغانيات والمخنثين، وهز الخصر والتمايل بين أحضان من نعرف ومن لا نعرف، أية حضارة في أن يترك الرجل زوجته او ابنته في عهدة صديق خائن أو زميل مخادع، وأن يسمح لـ”لكع إبن لكع” بدخول بيته.
قالت أكثر من فتاة موقوفة في نظارة التوقيف حين قابلتهن مسؤولة الشؤون الاجتماعية، علام أتزوج في سن مبكرة، دعونا نعيش حياتنا ونستغل شبابنا قبل أن نسجن عند أزواجنا! قالت إحداهن بالفم الملآن، عمري 22 سنة وأنا لم أذق من ملذات الحياة إلا القليل، أريد أن أعيش حياتي مثل رفيقاتي، وحين أبلغ السابعة والعشرين سأبحث عن زوج ذا مال يناهز الأربعين أنجب منه وأدفن معه بقية عمري! لم يعد بناء الأسرة هدفاً ولا بناء الأجيال الصالحة أملاً، صار الزواج ملجأً لستر القبائح التي ارتكبت من قبل والتي قد ترتكب من بعد.
شكر الحكيم للضيف صراحته ثم علّق قائلاً: أيها الأحبة لا يقوم المجتمع الصالح إلا على ثلاثة أعمدة العائلة والمدرسة والمسجد، ولكل من الثلاثة دوره، فإذا تخلت المدرسة عن واجبها في زرع القيم وتعليم الأخلاق، إزداد العبء على العائلة والمسجد وصار عليهما أن يستدركا النقص ويملآ الفراغ، وعندما يلغى دور المسجد تتعرض العائلة لخطر عظيم لا يستدركه إلا لطف الله تعالى ودعاء الصالحين. ولهذا كان أجدادنا عدا عن اصطحاب أولادهم إلى المسجد، يستضيفون رجال الدين في بيوتهم ويدعون الأهل والجيران لسماع الموعظة مرة في الأسبوع. لكن هذا التقليد إندثر وصار الناس يخجلون من هذه العادة ويعتبرونها تخلفاً ويا للأسف.
مجتمعنا بات شبه مشطور بشكل عامودي: عائلات تتآكل فيها كل الفضائل فضيلة تلو الفضيلة، ترتكب فيها الموبقات بعضها بعلم الأهل وكثير منها بدون علمهم، تجتهد لستر فضائحها عن الناس وتستعين بمظاهر ومناسبات اجتماعية خداعة، وبكثير من الكلام والادعاء لتخفي انهيار بنيانها الداخلي، وعائلات أخرى أحسن فيها الرجل اختيار شريكة حياته وعرفت الزوجة من تختار فأسسوا بيتهم على التقوى واختاروا نهجاً خطه رسول الله وباركه القرآن، فأنجبوا ذريةً طيبة نشأت على الفطرة السليمة واقتدت بما رأته من رب الأسرة وربة البيت، عرفوا الحق وآثروا اتباعه وسمعوا بالباطل واجتهدوا في اجتنابه. عرفوا للكبير هيبته واحترامه وتوقيره، وما أن يخرج فرد منهم عن الاستقامة حتى يتداعى إليه الباقون يرشدونه ويعينونه ويقومونه وإذا اقتضى الأمر يزجرونه ويعتزلونه.
لا تسألوا عن عائلات اندثرت وانمحى خبرها أو ساءت سمعتها فهي التي قلّدت وانساقت في الملذات وانحدرت في الموبقات، وأدارت ظهرها للحق لما جاءها، فكتبت على نفسها الشقاء. وانظروا في سلالات لا تزال باقية تتوارث الصلاح والتقوى، تفعل الخيرات وتجتنب الموبقات حتى باتت تفاخر بتراث العلم والصلاح لا بالمال ولا بالجاه. بارك الله لها بالذرية الصالحة وبالأثر الطيب، جيلاً بعد جيل، قال تعالى في سورة النحل:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)}. ومن ” تشعبت به الأهواء لم يبالِ الله في أي وادٍ هلك”، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.