محمد فرشوخ
العدد الثامن – شتاء 2009
ما أن أتم المصلّون صلاة فجر الجمعة حتى جلسوا في حلقة يحمل كل منهم مصحفًا وينتظرون من الشيخ الحكيم أن يعيّن لهم السورة موضوع درس هذا الصباح المبارك.
بادرهم قائلاً: روى الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين”. وعنه رضي الله عنه روى البيهقي في شعب الايمان: “أضاء له النور ما بينه وبين البيت العتيق”.
وكما جرت العادة صار الحكيم يعين القارئ تلو القارئ حتى وصلوا إلى خاتمتها فقرأ الحكيم بصوت متهدج: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً؟ الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا…} إلى آخر السورة.
ثم قال الحكيم: هذه التلاوة فأين التدبر؟ صمت الجميع فقد بدأت الجلسة. أردف قائلاً: تجدون في هذه السورة المباركة ثلاث قصص رئيسية يربط بينها عدد كبير من الأمثلة والحكم والعبر.
فتية الكهف المؤمنين ثم موسى والخضر عليهما السلام ثم ذي القرنين القائد الصالح.
تدبروا في بادئ الأمر كل قصة على حِدَى، وبعد ذلك ابحثوا عن الصلة التي تجمع بينها فالسورة مترابطة محكمة الضبط متسلسلة الوقائع.
خلاصة قصة أهل الكهف إعداد المؤمن منذ سنّ الفتوّة وغرس الايمان اليانع في قلب الفتى اليافع: فهذا عمر الإعداد والتلقي وتذكروا أن أكثر أصحاب النبي الأوائل كانوا في سن المراهقة حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام. وتذكروا أن التلقي في سن مبكرة يغور في الأعماق ولا يترك للضلال فسحةً للعبث. وعندما يستيقظ بقية الرجال ليعوا مسؤولياتهم ويشرعوا في استدراك ما فاتهم يكون أولئك الفتيان قد شبوا على الهدى وامتلأوا علمًا ويقينًا ودخلوا مرحلة العطاء والانتاج.
وصدق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: “تفقهوا قبل أن تسودوا”. إذ لا مجال للتلقي عندما تكثر الواجبات وتكبر المسؤولية ويضيق الوقت.
ومن قصة موسى والخضر عليهما السلام نتعلم بالتفصيل أدب المتعلم مع معلمه وصبره وطاعته وانقياده، كما نتعلم أن طلب العلم لا يتوقف وأن العلم يؤتى وأن فوق كل ذي علم عليم وأن العلوم درجات وكذلك المعلمين وأن الدرجة العليا هي حين يكون الكتاب هو القرآن والمعلم هو الرحمن. وبدون معلم لا يمكن الوصول إلى فهم الحكمة الإلهية من كل أمر نصادفه أو نسمع به.
ومن قصة ذي القرنين نفهم دور الحاكم القوي النافذ الذي يحكم بأمر الله ووفق شرع الله فيعدل ولا يظلم ويُعِين ولا يستأثر.
أما عن الصلة والترابط بين القصص الثلاث في السورة الواحدة فاعلموا أنها لم تجتمع صدفة ولم تسرد كيفما اتفق، فهي تنزيل الحكيم العليم.
فعلى الأمة أن تبدأ في المرحلة الأولى بتعليم فتيانها والسهر على نشأتهم نشأة إيمانية صالحة وأن توجههم إلى فقه دينهم ودنياهم، وفي المرحلة الثانية تعنى بإعداد المتفوقين منهم في العلم كما في التقوى. في هذه المرحلة يوكل أمر النخبة إلى معلمين من النخبة يتحلّون بالأدب والحلم والاحترام والطاعة ليكملوا فقه العلوم وأسرار الاحكام الشرعية. وهذه النخبة تصبح فيما بعد الأمينة على أمور الدنيا والدين.
وفي المرحلة الثالثة يتم اختيار الأصلح من هذه النخبة ليتسلم مقاليد الحكم والسلطة فيحكم بما أمر الله ويكون حقًا خليفة الله في أرضه مصداقًا لقوله تعالى {إني جاعل في الأرض خليفة}.
يا أحبتي تجدون في سورة الكهف أيضًا آيات في الإعجاز الأدبي أو العلمي أو النفسي تهز المشاعر وتوقظ الأحاسيس والفقيه المتعمق هو الذي يجد في هذه السورة طريقة اعداد الأمة واحقاق العدل ومنع الظلم وخلاص الانسانية.
وأما الخلاصة العامة من هذه السورة فقد ذكرها المولى تعالى في ختامها بقوله: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} أي لا خلاص للفرد ولا للجماعات ولا للأمم إلا بالاعتراف بالله الواحد وبالاستجابة لما دعا إليه وبالاستقامة على الصراط الذي فرضه.
ختم الحكيم الجلسة قائلاً: هذا بعض الضياء المنبعث من سورة الكهف ولو اتسع الوقت لكان لنا مع السورة وقفة أخرى، نوّر الله قلوبكم وأضاء لكم بصائركم ووفقنا وإياكم لفهم كلام الله والعمل به. وانتهت جلسة الجمعة.