د. محمد السيد عبد الرازق موسى*
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً وبعد…
هذا كتاب الله – تعالى – الذي شغل العالم منذ نزوله إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو مصباح الظّلام ومنهل البيان الذي وقف فحول العرب وفصحاؤهم أمامه عاجزين مشدوهين، وهم الذين طالما خاضوا معارك البلاغة والبيان، وتباروا في فنون القول وأسراره حتى أسروا القلوب والأذهان بسحر بيانهم وتبيينهم، وهاهم أولاء يقفون أمام البيان الأعظم مأسورين مشدوهين عاجزين!!
وفيما يلي بعض أوجه الحكمة في القرآن الكريم لدى تقديم آية على أخرى في النزول:
فمن المعلوم أن من الآيات ما نزل لسبب من الأسباب أو لمعالجة موقف من المواقف التي وقعت في حياة المسلمين ومنها ما نزل لإثبات حكم شرعي أراده الله لصالح الحياة والممات.. وكانت هذه الآيات تناسب أحوال الناس وعمر الدعوة الإسلامية فيهم ومدى صلابة العقيدة في ذلك الوقت، فما نزل بمكّة يختلف في الأحكام والشرائع عمّا نزل بالمدينة، فإن من أسرار القرآن أنه يمسك بأحوال النفس الإنسانية كلها، ويجيء إليها بما يناسب كل حال منها في مواجهتها للأحداث وفي تصورها لها وإحساسها بها [1].
وإذا نظرنا إلى أوّل ما نزل من القرآن الكريم فسنجد قوله تعالى:(( اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق )) ( العلق 1-2 )
فجاء الخبر بأن الله خلق الإنسان من علق، والعلقة ( الدم الجامد ). وإذا جرى فهو الدم المسفوح وقال:( من علق ) بجمع علق، لأن المراد بالإنسان الجنس، وإذا كان المراد بقوله:( الذي خلق ) كل المخلوقات، فيكون تخصيص الإنسان بالذكر تشريفاً له، وإذا كان المراد بالذي خلق:الذي خلق الإنسان، فيكون الثاني تفسيراً للأول، والنكتة ما في الإبهام ثم التفسير، من التفات الذهن وتطلّعه إلى معرفة ما أبهم أولاً، ثم فسّر ثانياً [2].
وهذه الآية مكّية وقد تقدّمت في النزول على آية سورة المؤمنون وهي مكّية أيضاً وذلك في قوله تعالى:(( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين )) ( المؤمنون 12-14 )
والعلّة في ذلك والله تعالى أعلم أن آية العلق كانت في بداية ظهور الإسلام وأولى نسائمه ولم تكن النفوس مهيّئة لاستقبال الأمر المفصّل أو الشرح المطوّل بدقائقه، فأجمل لكي يمسّ القلب ويطرقه طرقاً خفيفاً يوقظ الذهن من غفوته وغفلته، ثم جاء بعد ذلك التفصيل ووصف المراحل الدقيقة في سورة المؤمنون بعدها تهيّأت النفوس لذلك واستعدّت لاستقباله وفهمه.
ومن ذلك أيضاً ما جاء من الآيات مقدّماً بعضه على بعض في تحريم شرب الخمر، وذلك مراعاة لمقتضى الحالة التي كان عليها المسلمون من شربها في ذلك الوقت، فلم يكن سهلاً أن ينقلهم الإسلام فجأة من المألوف إلى التحريم، فنزلت الآيات بالتدرّج في مراحل التحريم، فتقدّمت أولاً آية بيان الإثم الأكبر والمنافع الأقل للخمر، فأصبح التنفير واقعاً في النفس، يقول تعالى:(( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون )) ( البقرة 219 )
ثم نزل في مراحل ثانية قوله تعالى:(( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلّا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوّاً غفوراً )) ( النساء 43 )
فانتقل المسلمون مع هذه الآية نقلة ثانية تالية للمرحلة الأولى، فصاروا يتجنبون شربها في النهار الجامع لأطراف الصلاة، حتى أصبح الوقت المباح لشربها هو الليل وقليل فاعله، ثم كانت المرحلة الأخيرة التي أتمّ الله تعالى فيها التحريم القاطع إلى يوم الدين، قال تعالى:(( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون )) ( المائدة 90 ) فهم في هذه المرحلة كانوا على أتم الاستعداد النفسي والجسدي لاستقبال هذا الأمر وتنفيذه من فوره دون معاناة أو تملل.
_____________________________________________–
* كلية الشريعة أستاذ مساعد البلاغة والنقد كلية التربية – جامعة المنصورة.
وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.55a.net
الهوامش:
[1] عبد الكريم الخطيب – إعجاز القرآن – ط1- دار الفكر العربي – القاهرة – 1964- 2/294
[2] الشوكاني – فتح القدير 5/628