د. محمد رفعت*
روى الإمام البخاري بسنده عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا, فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا, فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا, فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا ).
وفي رواية للإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ( مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ, كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا, فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ, وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي).
شرح الحديث:
تعريف الجنادب عند أهل اللغة:
قال أبو السعادات: الجنادب جمع جندب ـ بضم الدال وفتحها وهو ضرب من الجراد وقيل هو الذي يصر في الحر. وفي المعجم الوجيز: الجندب: نوع من الجراد يصر ويقفز ويطير. (…)
التَّقَحُّم: فَهُوَ الإِقْدَامُ وَالْوُقُوعُ فِي الأُمُور الشَّاقَّة مِنْ غَيْر تَثَبُّت.
وَ الْحُجْز جَمْع حُجْزَة وهِيَ مَعْقِد الإِزَار وَالسَّرَاوِيل.(…)
وَمَقْصُود الْحَدِيث أَنَّهُ شَبَّهَ تَسَاقُط الْجَاهِلِينَ وَالْمُخَالِفِينَ بِمَعَاصِيهِمْ وَشَهَوَاتهمْ فِي نَار الآخِرَة، وَحِرْصهمْ عَلَى الْوُقُوع فِي ذَلِكَ، مَعَ مَنْعه إِيَّاهُمْ، وَقَبْضه عَلَى مَوَاضِع الْمَنْع مِنْهُمْ، بِتَسَاقُطِ الْفِرَاش فِي نَار الدُّنْيَا لِهَوَاهُ، وَضَعْف تَمْيِيزه، وَكِلاهُمَا حَرِيصٌ عَلَى هَلاكِ نَفْسه، سَاعٍ فِي ذَلِكَ لِجَهْلِهِ. (…)
وقال الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين: ( كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا أى أوقد نارا, واستوقد أبلغ من أوقد, فزياده المبنى تفيد زياده المعنى, والمراد بذلك ظهور الحق ووضوحه, مما يرفع عذر المعتذر).
الحقيقة العلمية:
انجذاب الحشرات للضوء: هي ظاهرة علمية مؤكدة علمياً (…) حيث إن الفراشات من رتبة حرشفيات الأجنحة والجنادب من فصيلة مستقيمات الأجنحة تنجذب جميعها إلى الأشعة فوق البنفسجية التي تشع من النار أو من أي مصدر آخر للضوء يشع هذه الأشعة غير المرئية للإنسان لكنها مرئية وجاذبة لهذه الكائنات التي لا يعرفها الكثير من البشر.
وتنجذب الجنادب (Katydids) والفراشات (Moths) بصورة كبيرة في المصائد بقوة مصباح زئبقي قوته 250 وات حيث يخرج منه الأشعة فوق البنفسجية ultraviolet light أو ما يسمى بالضوء الأسود black light وهي تنجذب أيضاً وبكميات مناسبة إلى لمبات الفلوريسنت البيضاء العادية.
وتنجذب بدرجة أقل إلى المصباح العادي الأصفر بقوه 40، 60، 100، 200 وات وإذا قمنا بتثبيت ملاءة بيضاء على حائط فإن هذه الحشرات الليلية النشاط تغطى هذه الملاءة إذا كانت الإضاءة فلوريسنت عادية أو سوداء أو لمبات زئبقية تشع الأشعة فوق البنفسجية وتستخدم هذه الطريقة كطريقة من طرق المكافحة المتكاملة للآفات الحشرية اعتماداً على قوتها وتأثيرها الكبير في جذب أعداد كثيرة من هذه الحشرات.
ثم إن حرارة المصباح الزئبقي 250 وات نار محرقه لهذه الفراشات ونطاطات الأوراق (grasshopers).
وتنجذب الحشرات إلى الأشعة فوق البنفسجية والضوء الأسود black light بصورة كبيرة في دائرة قطرها 500 متراً أو أكثر ويكون مصدر الضوء في المنتصف وتتخبط الحشرات في دائرة الضوء ثم ترتطم بالمصباح المضيء الساخن وتحترق وتموت بكميات هائلة وهذه ظاهرة سلوكية (behaviouristic character) يعرفها علماء الحشرات.
ولذلك صمم العالم Robinson مصيدته المعروفة باسمه light-trap Robinson والتي بنيت فكرتها على انجذاب الحشرات للأشعة فوق البنفسجية وهى طريقه مثلى لجذب الفراشات والحشرات الأخرى ليلية النشاطnocturnal insects حيث تستخدم في جميع البلاد لأغراض البحث العلمي وأغراض المكافحة المبكرة والمتكاملة للآفات integrated pest management ) ) (IPM). (…)
إن انجذاب الحشرات insects للضوء الطبيعي (ضوء الشمس) نهاراً والتي تسمى بالحشرات النهارية النشاط Diurnal insects وانجذاب البعض الآخر من الحشرات إلى ضوء القمر والضوء الصناعي electrical lights ليلاً والتي تسمى بالحشرات الليلية النشاط nocturnal insects لهي ظاهرة سلوكية أودعها العلي القدير في هذه الكائنات لسر كبير يعلمه الله لتنظيم حياة هذه الحشرات لاستمرار أنواعها في الحياة وتؤدي وظيفتها حيث قدر الله لها.
ويزداد نشاط الفراشات في الليالي المقمرة full moon light وتتأثر بدرجات الإضاءة تبعاً لمنازل القمر حيث كلما ازداد اكتمال القمر ازدادت كمية الأشعة فوق البنفسجية UV المنبعثة منه.
والضوء هو شكل من أشكال الطاقة وهو جزء من الموجات الكهرومغناطيسية والتي تبدأ من الأشعة الكونية الشديدة القصر، ويزيد طول موجتها حتى تصل إلى الموجات اللاسلكية الطويلة التي تستخدم في الإذاعة. والعين في الإنسان تستطيع رؤية الموجات بين (400 ( نانومتر وهو الطول الموجى للضوء البنفسجي و(700) نانومتر وهو الطول الموجى للضوء الأحمر (النانومتر يساوي 1/106 مليمتر).
ولا تستطيع عين الإنسان رؤية الموجات الكهرومغناطيسية المتبقية وهي ما فوق أو تحت التردد المذكور وهي الأشعة الكونية، أشعة جاما، أشعة أكس، الأشعة فوق البنفسجية ولكن بعض أنواع الحشرات تستطيع رؤيتها، الأشعة تحت الحمراء، أشعة الرادار، والموجات الدقيقة الصغرى، والأشعة الراديوية.
وجه الإعجاز العلمي في الحديث:
شبه علماؤنا سقوط الْجَاهِلِينَ والعصاة فِي نَار الآخِرَة بِتَسَاقُطِ الْفِرَاش فِي نَار الدُّنْيَا لِهَوَاهُ، وَضَعْف تَمْيِيزه، وَكِلاهُمَا حَرِيصٌ عَلَى هَلاكِ نَفْسه، سَاعٍ فِي ذَلِكَ لِجَهْلِهِ، ولكن بعد هذه الحقائق العلمية السابقة فمن الممكن أن نقول:
إن الفراش لا ينجذب إلى النار لضعف تمييزه أو لجهل منه فقط بل ينجذب للأشعة فوق البنفسجية التي تثيره لعمل عملية التزاوج ويصر عليها لكنه يفاجىء بمصيره الحتمي بوقوعه في النار.
وكذلك حال العاصين والمخالفين للرسول صلى الله عليه وسلم فانجذابهم للنار بسبب غواية الشهوات لهم، وهم لا يرون الأشياء على حقيقتها كالفراش لا يرى النار الحارقة على حقيقتها لكن يراها بعين ترى الأشعة فوق البنفسجية فقط فيرى النار بشكل مختلف تجعله ينجذب إليها، بينما المخالفين تحجبهم رؤية الشهوات والاستمتاع المؤقت بها عن رؤية نار يوم القيامة. (…)
وخلاصه القول إن لنار الآخرة جاذبية تجذب إليها الخارجين على حدود الله والمنفلتين من سياج الشريعة بسبب حبهم لمتع الدنيا المحرمة وجهلهم بعواقب أمورهم، كما أن لنار الدنيا جاذبية تجذب إليها الجنادب والفراش بسبب إدراكهم المحدود لما يحبونه وعدم إدراكهم لعواقب الأمور.
وفي هذا الحديث العظيم نلحظ نوعين من الإعجاز الأول: بلاغي: وهو دقة التشبيه النبوي بين حالة مادية محسوسة مشاهدة وبين حالة معنوية وجه الشبه فيهما يكاد يكون متطابقًا. والثاني إعجاز علمي: وهو تخصيص الرسول نوعين فقط من الحشرات للتمثيل بهما إحداهما الفراشات والأخرى الجنادب وهي نطاطات الأوراق والتي تنجذب بشكل واضح وظاهر لأي مصدر من مصادر النار المشتعلة التي تشع الأشعة فوق البنفسجية.
____________________________
* للراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.eajaz.org