أ.باسم وحيد الدين علي
يقول الله تعالى في سورة الملك:{ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟}. واللطيف الخبير سبحانه، خبير بوعظ خلقه وجذبهم للإنصات والتلقي، ولذلك كان للأسلوب القصصي نصيب هام في القرآن الكريم. فالقصة بالغة الأثر في نفس ابن آدم، ولا يظنن أحد أن القصص توجه إلى الأطفال فقط، فالمجتمعات كلها تحب القصة وما اجتماع الناس أحياناً إلا لتسقط أخبار بعضهم البعض، والناس يقصدون الحكواتي في المجتمعات الفقيرة لسماع القصة ويرتادون المسارح ودور السينما في المجتمعات الأخرى للغاية عينها، لأن النفس البشرية تنزع نحو معرفة الأحداث السيء منها والجيد، وتتهافت على مراقبة ثراء الثري وتسلط الحاكم وتتأثر لرؤية الفجيعة وإلى تفاصيل الخلافات بين الناس، والإنسان يميل إلى تقصي الأخبار ويدعوه فضوله إلى الإنصات والتتبع.
سبك الخالق تعالى قصص القرآن بطريقة بليغة وشيقة وسلسة، يسهل حفظها، لا تخلو من العاطفة والحس والمشاعر الإنسانية، ترافقها ألفاظ وعبارات تترقرق في الأذن وتتناسب مع مناخ القصة، رقيقة عند التقاء الأهل والأحبة، كما جرى بين يعقوب ويوسف عليهما السلام في آخر سورة يوسف، وكالحوار الذي دار بين إبراهيم عليه السلام وأبيه في سورة مريم، صارمة عند مواجهة أعداء الإيمان، كما في سورة الأحزاب في قوله تعالى:
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا {25} وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا {26} وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا {27}.
وقد تأتي القصة عقلانية مقنعة عند جدال المشركين، كما جرى حين حطم إبراهيم أصنام قومه بقوله في سورة الشعراء: قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ {71} قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ {72} أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ {73} قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ {74}.
وقد تكون القصة حزينة عند يأس الأنبياء وكرب الصالحين، كما جرى مع نوح ولوط وسواهم، مرعبة عند نزول البأس والعقوبة الإلهية في القوم الظالمين، كما في سورتي الدخان والحاقة. فتدخل العبرة منها في خبايا نفس القارئ أوالمستمع شاء أم أبى.
وقصص القرآن مختارة ومتنوعة، ففي كل قصة وموعظة منه خصوصية وتمايز لا تشبه سواها، لأن القصة ليست الغاية بل الموضوع هو الأهم ليكشف ميول النفوس، وأمراض المجتمعات، وأنواع المعاصي، وسمات أصحاب الإرادات العظيمة والنفوس الكبيرة، فيكون بعض الناس عبرة لمن يعتبر ويكون البعض الآخر القدوة والأسوة. فكيف إذا كانت قصص القرآن تتعلق غالباً بالمشاهير من مختلف الأقوام والأمم؟ وكيف إذا كانت هذه القصص تميط اللثام عن قصص الأمم الغابرة وتحسم الجدل الذي دار حولها قروناً طويلة؟
وعن مرامي القصص في القرآن الكريم يقول الدكتور سيد قطب رحمه الله ، أنها لإثبات الوحي والرسالة، وأن الدين كله من عند الله، وأن أصل الدين واحد، وأن وسائل الأنبياء في الدعوة موحدة وأن ردود أقوامهم عليهم متشابهة، وأن الله تعالى ينصر أنبياءه في نهاية الأمر ويهلك العاصين، وأن يتنبه الانسان إلى غوايات الشيطان، وأن الله تعالى قادر على إحداث الخوارق كقصة ميلاد عيسى عليه السلام وقصة إبراهيم وإعادة خلق الطير، وإحياء الموتى…[1]
ونزيد أن في قصص القرآن عبراً لا تحصى ولا تعد، بعضها ظاهر للعيان وأخرى رقيقة قد تبدو ثانوية في موضوع القصة لكن لها دلالاتها وأبعادها. وأن للنفس البشرية في قصص القرآن حصةً كبيرة بأبواب متعددة. وأن مفاعيل القصة تعالج في النفس البشرية عقداً ظاهرة وعقداً خفيّة، ومن مفاعيل القصة الصدمة والاتعاظ والاعتبار، “فالسعيد من وعظ بغيره”، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقصص القرآن ليست ضروباً من الخيال أو ادعاءات لمواقف صورت في الأذهان إنما هي روايات حقيقية مضت في الأمم السابقة أثبتت الحفريات والمكتشفات الأثرية صحة ما اندثر منها. والعجيب المعجز فيها أن الله تعالى أخبر سلفاً أننا سنعثر عليها وأخبرنا بالدليل القاطع على صحتها، ومنها على سبيل المثال: مكان ثمود قوم سيدنا صالح، ومدينة إرم مقر عاد قوم سيدنا هود، ونجاة جسد فرعون الغريق والذي أثبت العلماء الفرنسيون وفاته غرقاً حين حللوا رئتيه قبل بضعة عقود، قال عنه تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ {92} (سورة يونس). ومنها أيضاً العثور على سفينة نوح بألواحها والدسر، كما مرّ معنا من قبل.
ولا يظنن أحد أن في ترداد قصة من قصص القرآن تكرار يدعو إلى الملل، وخاصة في أخبار سيدنا موسى عليه السلام وفي أخبار بني إسرائيل، لأن في إعادة رواية حادثة ما، تركيز على جانب آخر لم يرد في الرواية السابقة ويكون هو الموضوع الجديد المطروح في السورة الحالية وبمثابة الشاهد على الموضوع الذي تعالجه السورة. فأخبار السحرة عند مواجهة سيدنا موسى تطرح مرة من زاوية ولائهم لمن يدفع أكثر، ومرة لإثبات أن السحر باطل لا يطال إلا الأعين وأن ذكر الله تعالى يبطله، وفي مرة ثالثة لإظهار عدم ثبات الكفر في وجه الإيمان والداعي بحيث آمن السحرة رغم التهديد والوعيد…
ويقول الشيخ أحمد كفتارو رحمه الله، إن في تجزئة قصة ما في عدة سور، تجنب للتطويل، ومعالجة لموضوع ما من زوايا مختلفة، وكلما قرأ الانسان من القصة جزءاً يسيرًا استعادت ذاكرته القصة بكاملها عن غير قصد منه. ناهيك عن الحوار الذي يدور في كل قصة بأسلوب ومعانٍ تسبر أعماق النفوس وتهز المشاعر، وتترسخ في الأذهان .
وليس في القرآن سيرة كاملة لرسول في سورة واحدة إلا في سورة يوسف، وفيها على تفردها إعجاز خاص، إذ لخّصت حياة نبي ومعاناته في مجموعة قصص قصيرة معبرة وموجزة. لم يؤثر الإيجاز فيها على تفاصيل الأحداث الكثيرة ولم يأت الإيجاز على حساب تحليل مواقف الشخصيات ولا على حساب إبراز المواقف والمشاعر والأحاسيس لكل أبطال القصة.
واللافت أن ما توصل إليه رواد النقد الأدبي في القرن العشرين حول شروط القصة الناجحة لم يأت بجديد غريب على قصص القرآن الكريم، التي سبقتهم بألف وثلاثماية سنة، إن من حيث المقدمة والتعريف بالأبطال أو اللمحة عن الظروف السائدة أو الحبك أوالتسلسل المنطقي أو وحدة الموضوع، أو التحليل النفسي لما يدور في أعماق الأبطال، وصولاً إلى النتائج المؤثرة والعبر المستخلصة، كل ذلك بأسلوب شيق وبليغ ومعجز.
وقصص القرآن لا حشوٌ فيها ولا ملل، ومن المعجز أنها تقدم لكل قصة ببضع آيات وأحياناً بآية أو أقل من آية لتضع القارئ والمستمع في الجو السائد ثم تنتقل فوراً إلى لب القضية فتصف المشهد وتسجل الحوار وتخلص إلى النتيجة في أقل من نصف صحيفة على الإجمال.
وفي القرآن الكريم عدد من القصص القصيرة جداً، اختصر بعضها بآية واحدة أو آيتين ومنها حوار إبراهيم مع ملك زمانه في سورة البقرة بقوله عز وجل:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {258}.
ومن أخبار سيدنا موسى في القرآن، قصة قصيرة في سورة القصص، يصف المولى تعالى حالة موسى بعد هروبه من مصر ووصوله إلى مدين جائعاَ مرهقاً بائساً، يسقي للفتاتين ولا يطلب أجراً إلا من ربه فيناجيه ثم يأتيه الفرج وكل ذلك جاء فقط في ثلاث آيات: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ {23} فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ {24} فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {25}.
وأما عن خاتمة حدث جلل سجله تاريخ الإنسانية وهو الطوفان فقد جاءت في القرآن بليغة موجزة دون أن تقصّر في حق المشهد المرعب الهائل الذي ساد قبل تلك اللحظات فيقول تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {44} (سورة هود). فتنتهي ثورة الطبيعة ويسود الهدوء بعد أن ابتلعت الأرض المياه ومن حكم عليه بالفناء. كل ذلك في آية واحدة.
وما أسلفناه ليس إلا غيضاً من فيض، حبذا لو يتسع المجال للتمتع بدقة السرد الإلهي لأخبار الأمم السالفة، فبعضها يرقق القلب وآخر يرعبه وبعضها الثالث يوعظ النفس وغيرها يوقظ الهمة وكلها تدعو إلى التفكر، وهنيئاً لمن تعلق بالقرآن وعاش مع قصصه ومواعظه وفتوحه.
وفي الخلاصة أن القرآن الكريم ليس كتاباً لمجموعة قصص من الخيال، بل حقائق للموعظة والذكرى، ليست القصة فيه إلا لغاية تخدم هذه الموعظة وتلك الذكرى. يقول الله تعالى في سورة هود: وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {120}.
جعلنا الله ممن يقرأ كلام الله تعالى فيتفهمه ويتدبره ويتعظ به ويعمل بموجبه.
[1] سيد قطب، التصوير الفني في القرآن.