أ.باسم وحيد الدين علي
من ميزات القرآن الكريم المثيرة لإعجاب علماء الاجتماع والباحثين من غير المسلمين والتي لا يضاهيه فيها كتاب آخر في العالم هي ميزات حفظ القرآن الكريم. ولحفظه وجوه إعجازية متعددة، منها ما يلي الخلق ومنها ما يلي الحق تبارك وتعالى، وأهمها:
1-شدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام على كلام الله تعالى:
لو تتبعنا الطريقة التي حفّظ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن للصحابة الكرام فحفظوه في صدورهم، وكيف أملاه على عدد من الصحابة الملمين بالكتابة، وكيف منع الجميع من تدوين الأحاديث الشريفة كي لا تختلط بآيات القرآن الكريم، وكم كان حرص الصحابة من بعده على كلام الله، وعدم جرأتهم حتى على جمعه بدايةً في مصحف واحد خشية الخطأ أو البدعة، لعرفنا أن هذا الكتاب الكريم وصل إلينا بسند متصل، لا شك فيه، وعبر إجماع رجال ثقاة، ما تركوا بينهم مكاناً لكذاب أو مبتدع.
2- جعل الله تعالى للقرآن الكريم في صدور المؤمنين مساحة لا يملؤها إلا كلامه تعالى، فيندر أن نجد مسلماً لا يحفظ شيئاً من القرآن، وكثر هم الذين يحفظون القرآن كله بتمام قواعده وأحكام تجويده وإحكامها. وأكثر منهم من يحفظ الجزء والجزءين والأجزاء الثلاثة منه، وأكثر وأكثر من يحفظ جزء عم ويحفظ معه مختارات من أشهر المقاطع يتلونها في الصلوات الجهرية ويستشهدون بها في محادثاتهم ومنتدياتهم.
3- محفوظ في كل بلاد المسلمين وحتى بين العوام:
من تعود السفر والتجوال في العالمين العربي والإسلامي يعرف تمام المعرفة أنه ما زار بلدة أو قرية إلا وجد من يحفظ كتاب الله عن ظهر قلب، ولا يتفاجأن أحد إذا سمع فتىً أو كهلاً من عامة الناس يرد إماماً أو يصحح له إذا أخطأ في قراءته أو نسي أو تلعثم في الصلاة، وكأنها رسالة إلهية إلى كل ذي لب أن للقرآن جنوداً منتشرين في أصقاع العالم يحفظونه في صدورهم ويراجعوه لبقية الناس ويحرصون على رسمه ولفظه وتوقيره وتدقيقه.
4- محفوظ في القرى النائية ولا يزال يدرس ولو بالطرق البدائية:
وحتى في القرى النائية المعدمة الفقيرة ، تجد للقرآن من يعلمه ومن يتعلمه ولو بالوسائل البدائية، فلا يزال الطريقة المثلى لمحو الأمية، ولو كتب بالطبشور على الألواح الخشبية العتيقة، لعدم توفر الأقلام والأوراق.
5- صامد ومحفوظ ومخبأ رغم كل محاولات الإرهاب والإبعاد :
وما أهمِل القرآن الكريم في بلد ما أو حورب، كما حصل خلال السنوات الثمانين من عمر الاتحاد السوفياتي المنحل، إلا وجد المسلمون في تلك البلاد طرقاً لإخفاء نسخ المصاحف عن الأعين ثم يقرأوها ويقرئوها سراً، ونجد في الوقت نفسه، أن للقرآن من يعنى به ويحفظه ويحافظ عليه في أمكنة أخرى من العالم الإسلامي. ومن يهتم بتراث الشعوب يجد في العالم كله نسخاً قديمة وقيمة من القرآن الكريم بخط اليد تتناقلها الأجيال بفخر واعتزاز.
6- أعداد الحفظة في تزايد:
لكن المفاجأة المذهلة هي في أعداد حفظة القرآن وعدد مدارس تحفيظه في العالم، فقد قامت بعثة عربية إلى إندونيسيا في مطلع العام الحالي (2010)، فأحصت أكثر من ثمانية آلاف مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم. مما يدفع إلى تقدير عدد حفاظه في أندونيسيا وماليزيا بحوالي مليون حافظ تقريباً. هذا دون أن نحصي عدد الناطقين باللغة العربية الحافظين لكتاب الله عز وجل من آسيا إلى إفريقيا. وترى المسلمين في كل مكان يسابقون دولهم والمؤسسات المعنية، فيشجعون على حفظ القرآن وتحفيظه لأولادهم من يوم أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَوْؤُهُ أَحْسَنُ منْ ضُوْءِ الشّمْسِ في بُيُوتِ الدّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ فَما ظَنّكُمْ بالّذِي عَمِلَ بِهذَا”.
وكيف لا يتوق فتيان المسلمين إلى حفظ القرآن بعد سماعهم قول الرسول الكريم ص:
” إن عدد درج الجنة عدد آي القرآن فمن دخل الجنة ممن قرأ القرآن لم يكن فوقه أحد) وفي رواية يقال له اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها “.
7- إحراق نسخ من القرآن في مكان لا يغير في الاستمرار بطباعة القرآن ولا في انتشاره:
ليفهم الداعون إلى إحراق عدد من نسخ المصحف الشريف ومن وراؤهم أنه عمل حاقد وأبله، وأن الكتاب الكريم محفوظ في صدورٍ لا يحصى عددها، عدا عما يطبع منه ويوزع بعشرات الملايين في أنحاء العالم وحيث تدعو الحاجة. وأن البدائل عمن أهمل القرآن حاضرة عند الله، مصداقاً لقوله تعالى في سورة المائدة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ…إلى آخر الآية.
ولا بد من أن نذكر بالخير كل من يقوم على طباعة القرآن الكريم وترجمة معانيه إلى مختلف لغات العالم، ويعمل على توزيع المصاحف مجاناً وفي العالم قاطبة، فما يتلف وما يحرق لا يبلغ إلا نسبة ضئيلة جداً مما يطبع ويوزع.
8- تعهد المولى تعالى بحفظه من التحريف أو الضياع:
وأما الإعجاز في حفظ القرآن مما يلي الحق تبارك وتعالى فله وجوهه الخاصة، فالقرآن محفوظ من الزيادة والنقصان على مر الدهور والأزمان. والله تعالى يقول في سورة الحِجر: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {9}.
9- تيسير حفظ القرآن لمن يرغب ويصدق في رغبته:
لإعجاز حفظ القرآن الكريم وجه آخر مدهش، وهو تيسير الله تعالى حفظ القرآن للمؤمنين، وهذه منة عظيمة منّها عزّ وجلّ على عباده الصادقين، ولا يفهمها كثير من الناس، فكيف يعجز الانسان عن حفظ بعض الوريقات المدرسية، وإذا به يفلح في حفظ ما ينيف على ستة آلاف آية؟
إنه فضل الله تعالى وحده إذ جعل القرآن ينساب برقة ودقة في الأسماع ليدخل بسرعة إلى الذاكرة، فتردده القلوب والعقول، وتنشرح منه الصدور حتى يصبح ترياقاً وشفاءً.
وحبذا لو يتسع المجال لذكر وجوه دقيقة في إعجاز حفظ القرآن فمنها توقف القاريء تلقائياً عند تلفظه بالقرآن خطأً وكأن جهاز إنذار داخلي يقرع لينبهه بأن ثمة خطأ قد حصل وأن عليه الإعادة والتصحيح، فمن زرع هذا الجهاز؟ ومتى وضعه وهل يمكن أن ينزعه؟ إنه إعجاز في إعجاز في إعجاز. لا يمكن أن تجد لذلك تفسيراً إلا من كلامه تعالى في سورة القيامة: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ {16} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ {17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ {18} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ {19}.
10- معلومات القرآن ثابتة لم تتغير على مر العهود ورغم كل الاكتشافات:
ولحفظ القرآن إعجاز آخر من فضل الله تعالى وعظيم علمه وقدرته، وهو احتفاظ القرآن بمعلوماتٍ فيه ثابتة على مر الدهور. فالقرآن الكريم لم يجارِ المعلومات الخرافية التي كانت سائدة في عصر النبوة الأولى، ولم يحابِ المعلومات التي كانت معتمدة في ذلك العصر، ولو فعَل لصارت هذه المعلومات بعد بضعة قرون مدعاة للسخرية وعرضة للنقد اللاذع.
يقول الباحث الدكتور محمود أحمد الزين:
(أي كتاب من عند غير الله تعالى تتزايد أخطاؤه بمرور الزمن وتوالي الأيام وظهور الاكتشافات والعلوم الحديثة. فلو سألنا العلماء في أي اختصاص كان عن نسبة الأخطاء في كتاب ألفه صاحبه قبل مئة سنة، لكانت إجابتهم أن وجود الخطأ يصبح أمرًا محتمًا لا ريب فيه ، إذن ماذا يقولون لو طرحنا السؤال عليهم بعد ألف سنة ؟ وقد طرحت هذا السؤال ذات مرة على طبيب فقال :إن تطور المعلومات الطبية في ألف عام لا بد أن يكشف أن أكثر هذا الكتاب صار أخطاء) .
وقد حافظ الله تعالى على ديمومة القرآن بأن حواه معلومات علمية دقيقة وثابتة، تماشت ولا تزال مع الأبحاث والمكتشفات الحديثة، بل وأثبتت تفوقها وتقدمها عليها.
11-لا يوجد في العالم كتاب متعدد المواضيع إلا ارتفعت فيه احتمالات الخطأ:
ومن المعلوم أن تعدد الموضوعات في كتاب واحد يرفع نسبة الأخطاء، لأن أحداً من الخلق لا يستطيع أن يلم بمواضيع متعددة ومختلفة المناهل، ولن تجد كتاباً متعدد المواضيع كالقرآن الكريم، فمن حفظ هذه المعلومات من الخطأ؟
واحتمال الخطأ يرتفع عندما ينفرد كاتب ما بإعداد كتابه ولا تقل الأخطاء إلا إذا اشترك في التأليف عدد من المتخصصين، فكيف بالله عليكم لا نجد خطأ في كتاب ذي أهمية كالقرآن الكريم تعددت مواضيعه في عصر لا يتوفر فيه علم ولا علماء ولا أبحاث ولا من يبحثون؟ لكن المولى تعالى يتحدى فيقول: { ذلك الكتاب لا ريب فيه}.
يقول الدكتور الزين في ذلك:( هل يمكن أن يعجز البشر عن كشف خطأ واحد في كتاب تعددت علومه ، جاء به إنسان واحد أمي ، من بلد أمي ، ومن أمة أمية ، وقد مضى على الكتاب ألف وأربعمائة عام ؟ هل يمكن أن يعجز البشر هذا العجز لو كان الكتاب من تأليف هذا الإنسان ؟).
لقد حفظ الله تعالى القرآن الكريم من الضياع والتحريف وحفظ معلوماته من الخطأ والزلل ولا داعي لمقارنته مع بقية الكتب القديمة وما دخل عليها من شطط وتحريف، فالأمر واضح.
12- أكثر كتاب كتب عنه وبحث فيه وقريء وحفظ:
يقول الشيخ الدكتور رجب ديب: (لا يوجد في العالم أجمع كتاب دُرِس كما درس القرآن وحُفِظ كما حفظ القرآن وانتقِد كما انتقد القرآن واجتمعت على نقده شياطين الإنس والجن دون جدوى كما حصل مع القرآن، والقرآن اليوم بات محفوظاً أكثر من ذي قبل فقد تنوعت العلوم المنبثقة عنه ، ولم يكتب عن أي كتاب آخر كما كتب عنه). بما يجعله مصاناً معنوياً لشدة المدافعين عنه ولصرامة المحققين ولقوة حجج الواعظين، وكأن علوم القرآن ودروس القرآن، وتفاسير القرآن خطوط دفاعية تحيط بالكلام المقدس من كل جانب. فإذا بالكلام المقدس يشرّف الكتب والكاتبين، جزاءً وفاقا.
12- فشل كل محاولات تحريف القرآن وقوة التصدي لها:
إعجاز آخر فيما يتعلق بحفظ القرآن الكريم، كلما غاب لاح، وهو فشل محاولات تحريف القرآن أو حذف بعض آيات منه، أو دمج بعض آياته بمقاطع من كتب أخرى سماوية وأرضية سياسية وأدبية، وكلها تبوء بالفشل الذريع، فتجد أن المسلمين في العالم لا يستهويهم كتاب ككتاب الله تعالى، ولا يكرمون كتاباً كهذا الكتاب ولا يدافعون عن كتاب كذلك الكتاب الذي لا ريب فيه هدى للمتقين. فالحمد لله الذي منّ على أولي الألباب بهذا الشرف، والذي جعل لذتهم في ذكره وقراءة آياته وتدبر معانيها والعمل بها.
13- إعجاز تحول عدد من نقاده إلى الإسلام:
وهو أننا نفاجأ بأن من يكلف من أخصام الإسلام بدراسة القرآن ونقده والبحث عن عيوبه ونقاط الضعف فيه، لا بد أن يصل إلى مفترق طرق وعليه أن يختار، فإما أن يستسلم للحق ويشهر إسلامه، كما فعل عدد كبير من المستشرقين والمفكرين في الغرب، ومنهم روجيه جارودي المنظر السابق للحزب الشيوعي الفرنسي، وإما أن يخرج بدراسة واهية لا بلقي أحد لها بالا، وإما أن ينكفيء ويقلع عن الفكرة ويعود أدراجه إذا كان ممن يحترم موقعه الفكري أو الاجتماعي.
هذه بعض وجوه حفظ القرآن الكريم ولنعلم أن الله تعالى حفظ من حفظ القرآن، وشرّف من دافع عنه، ورفع من وقره ونصره، وأذل من تقاعس عن نصرته أو عاداه فخذله. والحمد لله رب العالمين.